المجتمع المدني في سورية (2-2)

صفوان داؤد:

للإنصاف، يمكن القول إن مفهوم (المجتمع المدني) كان حاضراً بقوة في الإنتاج الفكري لعدد كبير من الكتاب والمثقفين في سورية، وفي أدبيات شخصيات الشأن العام، خاصة اليسارية منها. وإن الفعل المادي الأول تقريباً حول المطالبة بقيام المجتمع المدني في سورية ظهر عبر الطبقة المثقفة مع المفكر السوري جاد الكريم الجباعي عام ،1992 ثم عام 1997 عندما نشرت مجلة (الوسط) دراسة ميدانية وحوارات مع مثقفين سوريين حول المطالبة بتحقيق أسس بناء المجتمع المدني في سورية، وتبعها في العام التالي توقيع عريضة إلى رئيس الجمهورية آنذاك الرئيس الراحل حافظ الأسد، حول الواقع المزري للمؤسسة العامة للسينما، واحتكار الدولة (الإيديولوجي) للإنتاج السينمائي فيها.

بعد عام 2000 ظهر بيان سُمّي فيما بعد بيان (التسعة والتسعين)، وهو عبارة عن وثيقة قام بتوقيعها تسعة وتسعون مثقفاً سورية من الكتاب والمفكرين والأكاديميين وأساتذة جامعات، وشخصيات من أحزاب سياسية معارضة. هذا البيان، وإن كان ذو صبغة سياسية، إلا أنه كان في إطار النداء لإحياء المجتمع المدني في سورية. وهو موضوع شغل حيّزاً هاماً من النقاشات التي كانت تدور في المنتديات حديثة العهد المرتبطة مثل (منتدى الحوار الثقافي) و(المنتدى الحضاري) و(منتدى جمال الأتاسي) و(منتدى الحوار الوطني). على أن الحكومة السورية لم تُمهل هذا المناخ الجديد ليتطور، بل قامت بحملتها الشهيرة في آب ،2001 وقامت باعتقال مئات الناشطين وموقعي (بيان التسعة والتسعين)، منهم عشرة ناشطين رئيسيين في حركة المجتمع المدني، ونائبان في (مجلس الشعب) السوري، وأستاذ جامعي معروف. فإلى ماذا أدى ذلك؟

تحتاج الدولة العصرية أن تعمل مجتمعاتها كضابط موضوعي للخلل الذي قد ينتج عن اختلال العلاقة بين السلطة والأفراد، ولأن الواقع معقد بدرجة كبيرة، لا بدّ من صياغات جديدة لضمان بقاء استقرار الدولة عبر انتظام أفراد ضمن جماعات وهيئات أهلية غير سياسية لتمثيل مصلحة الجماعة والدفاع عن حقوقها، ومراقبة التشريعات وتجاوزات السلطة طوعياً. فإن أخلّت السلطة لسبب ما بالعقد الاجتماعي الذي وُجدت أصلاً لخدمته، تتحرك هذه الهيئات للاحتجاج على الخلل والمطالبة بإصلاحه، فكان نتيجة ذلك حصول نوع من التوازن في بنية الدولة العصرية بين الحيزين العام والخاص.

لكن في سورية، وفي غياب حرية التعبير وسيطرة قوة الأمر الواقع للسلطة على هيئات المجتمع المدني التي أصبحت ومازالت بمعظمها أشكالاً خُلّبية، دُمِّر هذا التوازن، وكان من تجلياتها اختيار شرائح من المجتمع رفع الظلم السلطوي عنها باستخدام وسائل عنفية غير شرعية، ما يدفعنا إلى تقدير أن أحد مسببات اندلاع الأزمة السورية هو تعدّي الدولة، بمفهومها القانوني، على الهيئات الاجتماعية وتفريغها من مضمونها.

إن التأثير الإيجابي لهيئات المجتمع المدني على المجتمعين السياسي والحياة العامة أصبح معروفاً، بل بديهياً، وتشير الدراسات الاجتماعية إلى تأثر هيئات المجتمع المدني بعاملي الثقة السياسية، والثقة الاجتماعية، اللتان تتأثران بتعاضد المجتمع. ويقول العالم الاجتماعي روبرت بوتنام أن (مدى تنافسية المجتمع المدني تؤثر على الثقة السياسية، والتي تؤثر هي أيضاً على احترام القانون. وهو ما يعطي شرعية سياسية تؤثر وتتأثر بمدى الازدهار الاقتصادي). ومن التجارب الناجحة الجديرة بالاهتمام للمجتمع المدني ما حققه في الهند في إقالة رئيس وزراء، ووزير الدفاع ووزير الاتصالات، على خلفية كشف قضايا فساد. ورغم أن الثقافة الديمقراطية غير متجذرة في كل منظمات المجتمع المدني في الهند، لكنها اكتسبت خصائص عامة حاسمة أهمها الاستقلالية عن السلطة، التنظيم، وخدمة شؤون وقضايا متعلقة بالصالح العام، خاصة تلك المتعلقة بقضايا الفقراء والفلاحين.

إن أهمية فضاء (المجتمع المدني) أنه يتعلق بالمصالح ذات القاعدة الشعبية الواسعة، ورغم ارتباطه المباشر بالنظام المؤسساتي للدولة إلا أنه لا يتبع للسلطة بمعناها الاحتكاري، ولا يسعى إلى المنافسة عليها. ويرتبط هذا الفضاء بشكل عضوي بالتعددية والتنوع، وقبوله للعضوية المفتوحة والجزئية، إذ يمكن للفرد أن يكون عضواً في أكثر من منظمة من منظماته. إن حضور فضاء (المجتمع المدني) كعقد اجتماعي يربط المواطن السوري سيقود بالضرورة إلى ثقة المواطن بالسياسات الحكومية لأي سلطة حاكمة، ويدفع باتجاه رقابة شعبية على هذه السياسات، ومجتمع أكثر فعالية في تجاوز الأزمة السورية، وذي ثقافة سياسية أكثر انسجاماً مع الواقع. إذ إن شعور المواطن بالحافز للانخراط في مجموعات والشعور بالحقوق، سيشكل عامل ضغط على المجالس المنتخبة في الدولة، ويؤدي إلى أداء حكومي تنافسي، وتشكيل مجتمع قادر على التعبير عن مطالبه.

العدد 1104 - 24/4/2024