ليس بالديمقراطية السياسية وحدها تحيا الشعوب! عن الهند وأمثالها

طلال الإمام- السويد:

منذ أكثر من نصف قرن وخلال موجة الأفلام الهندية، غنّينا مع (شامي كابور): سوكو سوكو، في فلم (جنكلي). شاهدنا أفلاماً عن جمال طبيعة الهند الساحرة، ألوانها الزاهية وقصص الحب والحرمان والدموع، عن الفقر والتشرد. شاهدت فيلماً اسمه، كما أذكر: (ماسح الأحذية) عن طفل يتيم يتجول بين الأحياء لمسح الأحذية، مشرداً ينام في الطرقات، في أحياء ليس فيها صرف صحي ولا أدنى متطلبات حياة البشر، يتعرض لمختلف أشكال الاعتداء، والاستغلال والاغتصاب. أذكر أنني يومذاك تأثرت به إلى حدّ البكاء، ومازال في ذاكرتي إلى اليوم.

لماذا أقول ذلك، الآن؟

اعتقدت أن ما شاهدته مجرّد (فانتازيا) لا وجود لها في الواقع. الحياة في الأفلام أو المسلسلات عموماً لا تعكس الواقع كما هو إلا نادراً، وتحاول دوماً الابتعاد مثلاً عن الأسباب الحقيقية للفقر والتشرد، وذلك خدمة للطبقة الحاكمة أو السلطان. اعتقدت أن الحياة لا يمكن أن تكون بهذا الظلم، وأن الفقر والتشرد لا يُعقَل أن يكونا بهذا المستوى.

الهند بلد العلماء والفلاسفة، بلد الحكماء والديمقراطية السياسية، لم أكن أتصورها أبداً بفقرٍ مدقع يعاني منه الملايين. بلد أنجب فلاسفة، وعلماء ذرّة وفضاء وسياسيين مشهورين، لم أتخيّل أن يكون الفقر فيه بهذه القساوة.

زرت الهند مؤخراً، لمدة أسبوعين، تجولت بين مدن عدة، في كل تجوالي كان في مخيّلتي طيف المهاتما غاندي، طاغور، أنديرا غاندي، النضال ضد الاستعمار الإنكليزي، كما اليوغا وميزات كثيرة أعرفها عن الهند. بلد/ قارّة فيه ثروات ضخمة، طبيعته جميلة للغاية، شعبه لطيف يحب الضيوف، دائم الابتسام رغم وضعه المعيشي والحياتي الصعب. شعب يحب مساعدة بعضه البعض كما الغرباء. إلى جانب الفقر تجده في العديد من زواياه ثراء فاحشاً ونسبة تلوث عالية جداً.

تنقلت ًخلال زياراتي في باصات، الأمر الذي أتاح لي رؤية مدن، وقرى كثيرة، وشاهدت حياة الناس كما هي دون رتوش، دون دعايات وسائل الإعلام التي تزيّن الموت وتقفز فوق الأسباب الحقيقية للفقر المدقع رغم الثروات الهائلة التي تملكها الهند. دون سوكو سوكو والأغاني والأفلام الهندية الجميلة، دون فلسفة، من يكتفي بالإشادة بالديمقراطية السياسية فقط.

من مشاهداتي: في الهند غنى فاحش، وفقر مدقع وبشع (لا أدري ما إن كان هناك تعبير أقوى). أناس يقيمون في ڤيلات، أو قصور أو شقق نظيفة، فيها كل وسائل الراحة، مقابل من يسكًن خيماً بائسة أو يفترش الأرصفة، نعم، الأرصفة، ويتحممون في مياه قذرة. شاهدت أطفالاً يذهبون إلى المدرسة بحافلات خاصة وثياب نظيفة، مقابل أطفال ينامون في الشوارع ويبحثون في القمامة عن فضلات طعام، كما تُستغلّ اجسادهم الغضة في البناء أو العتالة. في العديد من المدن التي زرتها لا يوجد صرف صحي، يتغوط الناس في الشوارع أو بين البيوت. أطفال في عمر الزهور محرومون من الذهاب إلى المدرسة، لعدم وجود نظام تعليم إلزامي في الهند، ولعدم قدرة أهاليهم على دفع تكاليف التعليم الخاص أو العام. النتيجة هي التشرد أو الاستغلال وتوارث الفقر (حوالي نصف سكان الهند عاطلون عن العمل، المحظوظون منهم عمال موسميون أو عمال مؤقتون).

إن هذا الفقر المدقع ربما يفسر سبب ازدهار تجارة أعضاء البشر (الكلى مثلاً) إذ يبيع الفقراء كلاهم مقابل حفنة من المال والباقي لجيوب التجار.

******

حقائق واستنتاجات

أوضاع الهند، كنموذج لما فعله استعمار إنكليزي دام أكثر من ثلاثة عقود، ثم أتى الفساد، تؤكد جملة من الحقائق:

  • مازالت الماركسية بقوانينها العامة: فضل القيمة والتوزيع العادل للثروة الوطنية مثلاً هي الحل لمشاكل الفقر في الهند كما العالم.
  • الهند بلد ديمقراطي نعم، ومن دون شك، لكنها ديمقراطية سياسية فقط، وتُتجاهل، غالباً عمداً، الديمقراطية الاقتصادية، الاجتماعية وما يرتبط بها من حقوق الإنسان في التعلم، العمل أو الطبابة، السكن أو الماء النظيف. الديمقراطية السياسية، المتمثّلة بالانتخابات وتداول السلطة، ضرورية ويجب النضال لأجلها، لكنها ليست كافية، ويجب ربطها بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية وإلا تبقى لصالح من بيده الثروة أو السلطة.

*إن تحقيق بلد ما الاستقلال السياسي والتخلص من الاستعمار، على أهميته، ليس كافياً إن لم يترافق ببرنامج اقتصادي اجتماعي داخلي ويحقق رفاهية مواطنيه عبر برامج نهضوية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية كما السياسية عبر محاربة مختلف أشكال الفساد.

*نلاحظ في العقود الأخيرة، وبشكل خاص بعد انهيار تجربة الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أن هناك بين (الشيوعيين أو اليساريين) من يعلن وفاة الماركسية ويساهم في دفنها تحت شعارات خادعة مختلفة. هناك من ينبهر بإنجازات أوربا الرأسمالية قافزاً، ربما عمداً، عن أن جزءاً من هذه الإنجازات جاء عن طريق استعمار شعوب أخرى، وكذلك عبر نهب الثروة الوطنية والحروب الكونية، الإقليمية أو المحلية، ولا يتحدث عن ما تفعله الرأسمالية في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. هناك من يبشر بديمقراطية عرجاء قافزاً فوق متطلبات العدالة، والمساواة وحقوق الأفراد الاجتماعية والاقتصادية. لا يجوز اختزال الديمقراطية بصناديق الانتخاب وتداول السلطة رغم أهمية ذلك.

* يعاني النظام الرأسمالي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية من أزمات بنيوية ولم تعد تنفع معه الترقيعات أو محاولة إطالة عمره بحلول مؤقتة داخلية أو عبر تصدير أزمته للخارج بافتعال حروب وصراعات محلية وإقليمية.

أخيراً بضع كلمات إلى:

المفتونين بالرأسمالية والنيوليبرالية، والمبشرين بها.

وإلى من يسعون إلى دفن الماركسية و يجتهدون لإدانتها أو نقضها..

مهلاً أيها السادة!

أعطونا بديلاً مقنعاً عن الماركسية يشير إلى طريق منع استغلال الانسان للإنسان، إلى توزيع

عادل للثروات الوطنية، إلى كبح جماح تجار الحروب والأسلحة؟

عندما تقدمون لنا هذا البديل سنصفق لكم.

لكن، وإلى حين ذلك، تبقى الماركسية مرشداً للعاملين بسواعدهم وأدمغتهم، الطامحين لعالم أفضل .

شكرًا للهند الجميلة بطبيعتها المتنوعة، لشعبها الطيب والمضياف، للإنجازات التي حققتها في مختلف المجالات، لمواقفها الإيجابية في السياسة الخارجية، لموسيقاها الساحرة.

وشكراً إضافياً لأنها تجعل من يراها على حقيقتها، دون روتوش، أكثر ماركسية .

العدد 1104 - 24/4/2024