الثقافة العربية.. المستجدات والتحديات

يونس صالح:

بإمكان المتأمل للمشهد الثقافي العربي الراهن، أن يلاحظ عدداً من الظواهر الجديدة التي وسمت هذا المشهد نتيجة لمتغيرات عديدة طالت الكثير من المجتمعات العربية، وبسبب مستجدات وظروف إقليمية وعالمية.

ومع دخول الثقافة العربية العصر الرقمي وما واكبه من انفجار معلوماتي، أصبح من الضروري تأمل المستجدات الجديدة، وما تفرضه من تحديات، والبحث عن سبل التعامل معها على الوجه الأمثل، وتحديث خطط الثقافة العربية بما يتواكب واستيعاب هذه المستجدات، وما أفرزته من تحديات، برؤى مستقبلية متخلصة من إرث الريبة والذهنية المتشككة التي لا تعبر إلا عن الضعف والانكفاء على الذات بدلاً من روح المبادرة والتحدي التي أصبحت ضرورة للحاق بالنهضة العالمية التي تشهدها ثقافات عديدة، ليس في الغرب فقط، بل وفي دول كانت توصف حتى سنوات قليلة بأنها (نامية).

وإذا ما حاولنا رصد بعض أهم مظاهر المستجدات على المشهد الثقافي العربي العام اليوم، فيمكننا التوقف عند عدد من الظواهر والمؤشرات، من بينها الوحدة والتنوع التي تتعلق بقضية التعددية الثقافية والأقليات، في ضوء حالة من تنامي ظاهرة النعرات الطائفية في أكثر من بلد عربي، بصورة لافتة وفي وقت متزامن تقريباً، وهو ما يقتضي العمل على انتشار مبادئ التعددية الثقافية، بديلاً للرؤية الأحادية أو الفكرة الوحيدة. فقد كشفت هذه النعرات عن غياب ثقافة التعددية، وما يستتبعها من أفكار متعلقة بقبول الآخر، وضرورة التعرف على أفكاره ومناقشتها بدلاً من تجاهلها أو نفيها بالمنع والمصادرة مرة، وبالعداء مع أصحابها إلى حد الاقتتال مرات، وهي واحدة من شواهد غياب ثقافة الحوار.

وهي أيضاً إفراز طبيعي لما شهدته المنطقة العربية، وأطراف من العالم، على مدى العقدين الأخيرين من ظواهر التطرف والعنف وشيوع الأصوليات، ذات المرجعيات الدينية، وما أسهم به هذا من توسيع الفجوة بين العالمين العربي والغربي.

وهي ظاهرة تزامنت مع شيوع الأمية الأبجدية والثقافية، وتغليب للخرافة على حساب الأفكار العلمية والمستنيرة، وغيرها من الظواهر التي أسهمت ولاتزال تسهم في تردي أحوال المناخ العربي، وهو ما أسهم في استمرار إشاعة مناخ التسلط والمنع والرقابة وتقييد الحريات في البلدان العربية، بسبب ضعف تأثير الخطاب الثقافي الذي من شأنه زيادة الوعي وما يستتبعه من إشاعة حالة من النقد المستمر.

لذلك فإن التخطيط الثقافي في البلدان العربية المختلفة مطالب بوضع برامج أساسية تهتم بكشف حقيقة الفكر الرجعي المتخلف، وعلاقته بالسياسة، وإشاعة الفكر المستنير الذي يقدم للأجيال الشابة الحقائق عبر أطر معرفية منهجية، مع توفير المصادر الثقافية الضرورية لذلك، وإتاحتها من خلال النشر الواسع والبث، للتأكيد على أهمية التنوع الثقافي الخلاق في مسيرة المعرفة البشرية نحو المستقبل، وعلى دور هذا التنوع الثقافي في القضاء على الهيمنة أحادية القطب أياً كانت.

إن هذا كله مرهون في الواقع بقضية الحريات، وعلاقتها بحرية المعرفة والتعبير، لأنها جوهر كل إبداع خلاق والعصب الأساس للتنوع الإبداعي، وجوهر توفير المعرفة وما يستتبع ذلك من بناء عقل نقدي قادر على الفرز والتقييم لكل ما يتلقاه من أفكار ومعارف، بناء على منهج عقلي متطور يرفض كل وسائل التلقين.

وفوق تلك الظواهر أيضاً قضية العولمة وما تثيره من جدل بين فريقين، يرى أولهما فيها لوناً من ألوان الغزو الثقافي، ومحاولة لتنميط الثقافات وفقاً لنموذج واحد مبتدع في الغرب، وفريق آخر يراها وسيلة للانفتاح على الثقافات الأخرى في العالم والاستفادة منها في مسيرة التحديث والنهضة. ولعل ظاهرة العولمة وما تثيره من جدل ترتبط بظاهرة القطب الواحد الذي جسدته الولايات المتحدة سابقاً ولاتزال تجسده نسبياً في الوقت الراهن.. لكنها من جهة أخرى تثير التساؤل عن مدى صحة الفرض القائل بأنها ليست سوى مخطط غربي يبتغي القضاء على ثقافات العالم وخصوصيتها، وأن هذه المواجهة تقتضي الحفاظ على خصوصية الثقافة المحلية والانكفاء على الذات، وأيضاً رفض الوسائل الغربية كافة، باعتبارها عناصر من أدوات العولمة في مخططها للقضاء على الثقافة العربية. والحقيقة أن هذه الفرضة تحتاج إلى وقفة متأملة، خاصة في إطار النهضة الثقافية والصناعية والعلمية التي حققتها دول مثل اليابان والصين، بل وعدد آخر من دول آسيا الناهضة مثل كوريا وماليزيا وغيرها من دول شرق آسيا.

فتلك الدول أقامت نهضتها بالاستعانة بالمنجز الغربي التقني والمعرفي والعلمي، بوصفه منجزاً إنسانياً في المقام الأول، وحافظت في الوقت نفسه على تراثها الثقافي والحضاري، بل وطورته، وقدمته للعالم في شكل وسائط أدبية وفنية عديدة استطاعت به أن تعلن للعالم الغربي عن عناصر حضارتها وثقافتها وتاريخها، بعيداً عن شبهة الصراع والصدام، كما هو المنجز الثقافي الحقيقي على امتداد تاريخه.

ولعل أهم ما يستدعي الانتباه والقلق في زمن العولمة هو منحى التفكير العربي الذي ينزع إلى تجريد هذه الظاهرة من سياقها التاريخي والموضوعي، وتصويرها على أنها امتداد للسياسة الإمبريالية، أو أنها نتاج مؤامرة خارجية على شعوب بلدان عالم الجنوب، بما فيها الشعوب العربية. أن العولمة هي نتاج التقدم العلمي والتكنولوجي الجاري منذ عقود، أي أنها ظاهرة موضوعية كونية شاملة لا يمكن إبطالها برغبة ذاتية.. إنما المطلوب هو إجراء التكييف الإيجابي اللازم للتعاطي مع آلياتها، بما يكفل دفع عملية التقدم الإنساني إلى الأمام وتقليص الأخطار الناجمة عنها، ولاسيما إزاء التفاوت في التقدم بين المناطق المتأخرة والمتقدمة في العالم، والبحث عن وسائل وإمكانات توسيع الفرص الطيبة التي تتيحها هذه الظاهرة لخير البشرية وازدهارها، بعيداً عن استغلال العالم المتقدم والشركات المتعددة الجنسية لعالم الجنوب والإضرار بمصالح شعوبه وثقافاتها ومكاسبها الوطنية.

إن الخطاب العربي مبهم حول الظاهرة، تتحكم فيه معطيات ظرفية وعوامل ضاغطة، وبالتالي فهو يشكو من التناقض، معلناً في أحسن الأحوال أن العولمة الاقتصادية قضاء وقدر لا مفر منها، ولكن بشرط المحافظة على الهوية والخصوصيات الحضارية. وحين تسأل عن سمات هذه الهوية ومن يحددها وكيف يمكن المحافظة على الخصوصية ضمن حضارة الصورة التي تكتسح عقر بيوتنا دون استئذان، فإنك لا تحظى بجواب عقلاني واضح.

وإضافة إلى هذه الرؤية، يمكن القول أيضاً وعبر شواهد النمو الآسيوي، أن تلك الدول الآسيوية تفهمت ووعت جيداً المعنى الحقيقي لفكرة العولمة بوصفها الآن نوعاً من تضفير عناصر مختلفة من النشاط الإنساني، تطعم ببعضها البعض الآخر.

ويمكن تأمل ذلك من خلال المنجزات العلمية الحديثة، فعند الإعلان عن أي ظاهرة علمية جديدة، أو كشف علمي، عادة ما يتم الإعلان عن تتابع وتوالي جهود فرق علمية عديدة من أوربا وأمريكا ودول آسيا الكبرى، تأكيداً على أن ما تم تحقيقه هو حصيلة جهود متضافرة من أرجاء واسعة من العالم، كلٌّ قدم فيها إسهامه الخاص، في جزئية بعينها، ومن خلاصة ما توصل إليه كل فريق يتم التوصل للمنجز النهائي في صيغة كشف علمي جديد.

إن هذه الملاحظة تكشف أن تعامل الذهنية العربية مع العولمة ينطلق من داء قديم يحيل السلبيات لأسباب خارجية فقط، من دون محاولة القيام بعمليات النقد الذاتي وتقييم الذات بموضوعية، على عكس ذهنية الدول النامية الجديدة التي قيمت نفسها موضوعياً، وتعرفت على مناطق قوتها لتكون انطلاقة للمبادرة في الدخول إلى العصر الجديد بمنطق الندية، كما راجعت السلبيات وتعاملت معها برغبة حقيقية في العلاج والمواجهة.

لعل هذا ما يؤكد أن دخول الدول العربية عصر العلم أصبح ضرورة لا غنى عنها، بسبب التطورات المذهلة في هذا المنجز من جهة، وبسبب ارتباط العالم بعضه ببعض الآن معرفياً في إطار ظاهرة الانفجار المعرفي، عبر وسائل الاتصال الحديثة والفضائيات وشبكة الإنترنت، ولابد أن تشهد هذه المرحلة تضافر البحث العلمي مع الثقافة، وهو ما سيؤدي بداية إلى توفير الدراسات الخاصة بالإنتاج الإبداعي.

ومن بين المستجدات أيضاً شيوع الفضائيات العربية وما أفرزته من ظواهر جديدة على الثقافة العربية، وبينها إشاعة ثقافة الحوار عبر صرعة البرامج الحوارية المذاعة على الهواء مباشرة، إلا أن غياب ثقافة الحوار لعقود طويلة، وما رافقه من ظواهر على حساب الحوار الموضوعي أو معوقة لحرية التعبير، جعل تلك البرامج تميل للجدلية والاستقطاب على حساب الحوار الموضوعي المتوازن بمفهومه الحقيقي كعرض لآراء طرفين أو أكثر ومبادلة الحجة بالحجة، والتي تعبر في النهاية عن رغبة حقيقية في الفهم المشترك.

ومن الظواهر الجديدة أيضاً قضية اللغة العربية التي يمكن ملاحظة ما تتعرض له في أغلب الفضائيات العربية، والصحف، من تسطيح وتشويه، سواء بانتهاج لغة وسيطة تعتمد على اللهجات العامية تطعم بها اللغة الفصحى الرصينة، أو باعتماد بعض تلك الوسائط على اللهجة العامية بالكامل، مع إغفال تام لإمكانية اعتماد لغة إعلامية أو صحفية فصيحة تعتمد على إبراز جماليات اللغة العربية وترسيخها في عقل المواطن العربي وثقافته.

ومن الجلي للجميع غياب أي جهد متخصص لتبسيط اللغة، وتطويرها بما يجعلها مواكبة للتطورات العاصفة التي تحدث.

إن اللغة هي مستودع التراث وديوان الأدب ومجال الأفكار والعواطف، وما من حضارة إنسانية إلا وصاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري إلا ويبطن في أعماقه صراعاً لغوياً، حتى قيل إنه يمكن كتابة تاريخ الصراعات البشرية على أساس صراعاتها اللغوية.

هذه بعض مظاهر المستجدات التي طرأت على المشهد الثقافي العربي، وهي جميعاً، تؤكد ارتباطها بإثارة عدد من التحديات، بسبب الثغرات التي ترتبط بتلك المستجدات أو الظواهر. هنالك بالتأكيد قضايا وشواهد أخرى عديدة تحتاج إلى التأمل والبحث من قبل علاقات الإنتاج وشروطها في حقل الإنتاج الثقافي والمنتج الثقافي وآليات تسويقه في ظل شروط العولمة وما يرتبط فيها من حقوق الملكية وتسوق المعرفة وغيرها.

لكن المؤكد أن الثقافة في أول الأمر وآخره، لها دور جوهري في علاج العديد من الأزمات التي تواجهها البلدان العربية، بشرط أن يتم استيعابها بمعناها الأشمل، وبحيث تتضافر الأفكار التي ينتجها المثقفون في العالم العربي، انطلاقاً من يقين أنه لا توجد نظرية وحيدة قادرة على استيعاب أي أزمة، أو حتى على فهم العالم بكل تعقيداته.

العدد 1105 - 01/5/2024