دعوة لإعادة النظر والتفكير

غياث رمزي الجرف:

(إلى فوزي بصو.. الإنسان والمثقف)..

المفكر والفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر) قال بلغة خبرية تقريرية صارمة: المثقف هو موقف، وليس مهنة. وقرر بشكل مطلق: المثقف هو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات، وهو بالتالي ناتج تاريخي.

ورأى المفكر (نعوم تشومسكي) الذي تثير كتاباته وحواراته ومواقفه المبدئية حَفيظة الأوساط الإمبريالية والعنصرية وكل الذين يغتالون الحياة، رأى أن المثقف صوت (يَجْهر بالحقيقة في وجه القوة).

وذهب المرجعية الفكرية (إدوارد سعيد) إلى أن المثقف ليس عنصر تهدئة ولا خالق إجماع، وإنما هو إنسان يراهن بكينونته كلها على حسّ نقدي، وعلى الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة للمجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله أو فعله. ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل أن يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علناً.

في ضوء ما تقدم، وبناء على حالتنا العربية الراهنة الحبلى بالمثقفين الذين (يفكرون) لحساب الإمبريالية الأمريكية، والغرب الأوربي الاستعماري، والأنظمة العربية الرجعية/ الاستبدادية، والقوى الظلامية التفتيتية، والحبلى بالفساد والتدمير المادي والنفسي والروحي والوجداني، وتخريب النسيج الاجتماعي، إلى جانب تقهقر الثقافة وارتباكها عموماً، في منطقتنا، وهذا الفجور الثقافي والإعلامي، والعهر السياسي والانحطاط الأخلاقي والذممي، عربياً وإقليمياً ودولياً.

نقول: الأوطان لا تنهض بثقافة (امتثالية) تنحني أمام القوة، وتستسلم للديكتاتوريين، وتشيد بهم، وتبرّر ممارساتهم الجحيمية، وتدعو إلى عدم التعرض لهم.

والأوطان لا تُبنى بثقافة موظّفة في خدمة السلطة، ومؤسسة على أساس الاندماج في الأنظمة السياسية الحاكمة، ومنخرطة في مقولاتها وعقائدها ومشاريعها وامتيازاتها ومصالحها وخياراتها على الصعد كلها، ومفصّلة على قياس الحكام والسلاطين والملوك والأمراء والزعماء والجماعات والتنظيمات والمؤسسات.

والأوطان لا تقوم لها قائمة بثقافة سطحية، تسطيحية، تجارية، سلعية، غنائمية، مداهنة، خانعة وانتهازية.

ونكتب مرة أخرى: لا قيمة إنسانية حقيقية لثقافة قسرية امتثالية، نمطية، أحادية النظر والموقف. ولا قيمة لثقافة لا تدعو إلى الحرية والعدالة الاجتماعية- الاقتصادية، ولا تحترم إنسانية الإنسان وحلمه الأزلي في التغيير والارتقاء. ولا قيمة لثقافة لا ترفض الأوضاع القائمة الآسنة، الفاسدة، ولا تطالب بالتقدم الاجتماعي وإعلاء كرامة الإنسان، ولا تتصدى للاستغلال بأشكاله المتعددة، ولا تناهض وتواجه بصورة دائمة ومفتوحة العبودية والطغيان والتسلّط والاستلاب والقمع والمصادرة. وبكلمة جامعة موحّدة لا تواجه وباء الاستبداد بكل أنواعه وأبعاده الداخلية والخارجية، لأن الاستبداد علّة العلل، وبَلِيّة البَلايا، يهلك الأفراد والمجتمعات والأوطان والأمم سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، فكرياً، أخلاقياً، تربوياً وروحياً. ولأن الثقافة الاستبدادية – التي هي في لحظة تاريخية معينة جريمة الجرائم – تعمل على تحويلنا إلى تابعين، مطيعين، متطابقين، تقليديين، مشوهين وممسوخين، نعيش في (استقرار، واسترخاء، وهدوء وبرود، واطمئنان، ومسكنة وبلادة وخمول، بلا روح، وبلا مشاعر وأحاسيس وعواطف…) بحيث تترحَّم علينا حيوانات الأرض قاطبة.

أما في الحقل الأدبي المحض فالسؤال يبقى: ما قيمة أدب لا يسهم بمواقفه ورؤاه في تغيير العالم ليغدو أجمل وأنبل وأرقى وأعدل؟ وما الجدوى من أدب بلا قضية، ولا لون، ولا مذاق وبلا هوية وانتماء؟ من أدب لا يحمل، فيما يحمل، في رحمه، صرخة مقدسة غاضبة، لا راجية ولا مستعطفة لقدوم عالم جديد ينبت خيراً وعدلاً وتقدماً، ويمحق استغلالاً وظلماً وتخلفاً، ويقيم حياة إنسانية حرّة كريمة تليق بالإنسان ومكانته؟

إنّ المثقف، الكاتب، الأديب الحق هو مَن يكون داخل الفعل الإنساني ومَن يعبّر من خلال إبداعه عن أوجاع الإنسان وآلامه وآماله وأحلامه، في كل زمان ومكان، وهو من يوحّد بين فكره وإبداعه وسلوكه بعيداً عن أي تصنع أو تكلف أو ختل أو مراوغة وانتهاز، ويهدم ذاك الجدار الفاصل بين الفكر المعلن والفكر المعيش. وهو الذي يعرب (كتابةً وحياةً) عن القضايا الكبرى الأساسية التي لا يمكن لأي مجتمع، من دونها، أن تقوم له قائمة: قضايا العدل والتحرر والتقدم والديموقراطية والتغيير الاجتماعي، ويدافع عنها بثبات واقتدار، ونرى في كل إبداعاته انتماءه الراسخ لثقافة أمته المضيئة أولاً وقبل كل شيء. وإلى ذلك فإنّ المثقف، الكاتب، الأديب الحق مَن يتجاوز ذاته وشرطه الاجتماعي والإنساني باستمرار، ومَن يعي واقعه السياسي/ الاجتماعي من خلال رؤى علمية، موضوعية ومنهجية جدلية. وهو الذي يكون أميناً، في كل إبداعاته، للمرحلة التاريخية التي وُجد فيها، يواجه الأزمات (السياسية، الاجتماعية، الثقافية…) ولا يهرب منها، يقبض على (الثوابت) ولا يفرّط بها، يبيّن الحقيقة ولا يلوي عنقها، ولا يقوم بتزويرها، كما يفعل معظم المثقفين الليبراليين – إن لم نقل كلهم – القدامى والجدد، يقول الدكتور سماح إدريس رئيس تحرير مجلة الآداب: (ثمة صرعة دارجة هذه الأيام في أوساط المثقفين الليبراليين العرب (وبعضهم كان يسارياً متطرفاً) وهي إدانة أي حديث عن الثوابت، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بإدانة الولايات المتحدة، أو تحرير كامل فلسطين، أو تغيير الأنظمة العربية القائمة (كتب هذا النص في أيار – 2004م). اللافت أن هؤلاء (الليبراليين) لا يجدون غضاضة في السكوت الثابت عن نقد الأنظمة الرجعية، أو في القبض الثابت من خزائنها ووسائل إعلامها!

وفوق هذا وذاك، ليس المثقف، الكاتب، الأديب الحق من يكتب عشرات الكتب، وإنما من تكون له كرامة فكرية وأخلاقية، إذ إن من مهماته الأساسية – كما يقول نزار قباني – أن يحتجّ على كل الممارسات والأساليب التي تجعل العالم مرعباً، ومظلماً، وقبيحاً؟ ومن ثم يكون من المتعذّر عليه منطقياً ومهنياً وأخلاقياً أن يكون مع القاتل ضد القتيل، ومع الظالم ضد المظلوم، ومع الخنجر ضد اللحم الإنساني، ومع الفاشيست ضد الحرية، ومع المشنقة ضد الرقبة، ومع الشيطان ضد الله.

وإلى جانب ذلك هل بإمكان المثقف، الكاتب، الأديب الحق في عالم كعالمنا يترنّح فوق بحر صاخب من العنف والجريمة، والقمع، والممارسات العنصرية والبوليسية، ويتحوّل فيه الإنسان يوماً بعد يوم إلى (شيء) مسحوق بآلة الحرب العسكرية والاقتصادية والاستهلاكية، هل بإمكانه أن يُقفِل بابه، وأن يعلن أنه (حياديّ)؟ نشير، ها هنا، إلى أننا نُطلق لفظة (حيادي) في هذا الميدان، وفي أي ميدان آخر، على سبيل الافتراض الذي هو افتراض خاطئ من أساسه علمياً وعملياً وواقعياً؛ فالعلم والمعطيات الإنسانية على أرض الواقع تقول: لا شيء محايداً على الإطلاق، فحتى التسجيل الفوتوغرافي – على حد تعبير المفكر العربي اليساري الجدلي محمود أمين العالم – يتضمن موقفاً، إنه يختار اللقطة ويحدد الزاوية، والذين يزعمون الحياد والتسجيلية الخالصة، يخدعوننا، لأنهم يريدون إخفاء مواقفهم عنا، يريدون أن تتسرب هذه المواقف في نفوسنا دون أن نستيقظ لها، دون أن نقف منها موقف الانتقاد والتقييم والحكم. الحيادية موقف مسطّح سلبي، وما قيمة أن نعرف الحقيقة ولا نحمل القلم أو السلاح دفاعاً عنها؟

في كل الأحوال لا قيمة حقيقية لثقافة وأدب لا ينتصران للإنسان والفن معاً وفي أن واحد، لثقافة وأدب لا يعملان على تغيير الذات الإنسانية، قبل تغيير الواقع المُراد تغييره، وتحسين مفهوم الحياة لدى هذه الذات، والارتقاء بثقافتها وقيمها وعواطفها ومشاعرها وأحاسيسها، وتطوير نظرتها إلى الحياة والوجود والعالم. أليس هاجس الإبداع الأكبر هو إثارة الأسئلة والمكاشفة، وتحريك ما يمكن تحريكه على الصعد كلها، ومدنا بعصارة التجربة الذاتية المبدعة والعميقة، وبعصارة التجربة الإنسانية أكانت ممتدة الجذور في التاريخ؟ أم كانت معاصرة أم كانت راهنة؟ ومن ثم أليس هاجس المبدع الحقيقي هو تغيير موقفنا الجمالي والإنساني، أو تعديله والارتقاء به، أو تعميقه وترسيخه؟

وبعد، لقد اقتضَتْ حالتنا العربية الراهنة المتردية، بل المزرية على كل صعيد ومستوى وميدان، أن نكتب بأسوب تقريري مباشر لا يحتمل التأويل واللفّ والدوران والمواربة (فقد طمى الخطبُ حتّى غاصتِ الركبُ) ولكن، وعلى الرغم مما ذكر أعلاه، سوف نجد الذين كشّفوا عن عَوْراتهم يرفعون عَقِيرتَهم في وجه ما رأيناه وما كتبناه نادبين: (هذا خطاب خشبيّ قديم تجاوزه الزمن)، وهذا ضرب من (الجنون) والأمل والحلم الذي لا طائل فيه (..؟!).

لا بأس، أيها السادة، ولا ضَيْرَ، إننا – نحن الذين نذرنا أنفسنا للدفاع عن مختلف قضايا الإنسان والوطن والأمة، بل والكون – محكومون بالالتزام والجنون والأمل والحلم، ولا سيما في هذه الحقبة الأمريكية الآثمة، وهذا الحلف البربري الإرهابي (الإمبريالية، والصهيونية، والرجعية العربية الظلامية التكفيرية، والإخوانية (الأردوغانية) ) الذي يزرع الموت والدمار والخراب على امتداد الجغرافية العربية، وسقوط ورقة التوت من أنظمة وممالك وإمارات ومشيخات وأطراف هنا وهناك وُلدت من صلب (أبي رغال)، وتهافت بعض المثقفين والكتّاب والإعلاميين العرب (وغير العرب) بشكل يصيب المرء بالغثيان.

في نهاية هذه المقاربة نقول: قد نقع عند هذا المثقف، الكاتب، الأديب الحق أو ذاك على كل ما تقدم، أو بعضه، ولكن بالتأكيد، وفي الغالب الأعم، قلة هم من ينحون منحى الالتزام والجنون والأمل والحلم، الذي يُورث التعب والإرهاق والألم والفقر والنفي والجوع والتشرد والمرض وحتى الموت، في هذا الوقت الرخو، الضبابي، الدموي، والمتشح بالأشلاء والختل والتسفّل والقتامة والبُهْتَان والعتمة والغمّة.

العدد 1104 - 24/4/2024