قول في الأمركة

د. صياح عزام:

 يتذكر كبار السن من أهالي العراق، ومنهم أهالي بغداد بالذات، (مركز الشرق الأوسط الأمريكي) في بغداد، بالقرب من السفارة الأمريكية القديمة، ذلك المركز الذي كان ذراعاً دعائية للولايات المتحدة في العاصمة العراقية، والذي كان يستقطب أبناء الذوات من أصحاب الثروات، زد على ذلك أن مثل ذلك المركز وأمثاله تحولوا إلى فضائيات للإعلان عن بعثات ودورات متخصصة إلى الولايات المتحدة.

وبالمناسبة كان الاستعماريون البريطانيون في الهند قد عمدوا إلى تكوين طبقة خاصة أطلق عليها اسم (المتأنجلزين)، بمعنى نخبة من الشباب والشابات الهنود الذين اتبعوا دورات دراسية أو تدريبات في بريطانيا، ليعودوا إلى بلادهم بعد اكتسابهم عادات وطرائق تصرف تحاكي حياة البريطانيين.

وكان الهدف من ذلك تشكيل طبقة من الشباب من أجل كسب قلوب بقية الفئات الشابة، ومن ثم البرهنة على تفوق الحضارة البريطانية على الحضارة الهندية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

إن هذا النموذج البريطاني أوحى ب(الأمركة) في هذه الأيام، وتعمل على هذه الفكرة مؤسسات تمولها الدولة والقطاعات الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.

هنا يتذكر الجميع كيف كانت حكومة الولايات المتحدة تعمل بجد ونشاط على تكوين نخبة متأمركة في معظم دول العالم، وقد تجسد هذا العمل في المساعي لنشر وتعميم النموذج الأمريكي لحياة كلها لهو وملذات، على غرار فيلم (يا لها من حياة رائعة)، وقد سرقت هذه الموجة من الدعاية الموجهة والمبهرة ألباب ملايين الشباب والشابات في معظم الدول العربية والإسلامية، حتى ظهر نموذج من الشبيبة المتأمركة، بمعنى أن هؤلاء صاروا أمثولة تستحق المحاكاة من قبل أقرانهم الذين لم تتح لهم فرصة العيش في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة طويلة على سبيل الدراسة أو اتباع دورات تدريبية، خاصة أنه قد تضاعف هذا التيار الثقافي الموجه إلى درجة إقدام الدوائر والمؤسسات الأمريكية المختصة على تأسيس برامج بعثات دراسية طويلة وقصيرة الأمد، إضافة إلى إحداث المزيد من المراكز الثقافية التي راح يرتادها أولاد وبنات الأغنياء والميسورين بعد أن تحولت إلى مراكز وفضائيات لعرض الأزياء والتباهي بنموذج الحياة الأمريكية الصاخبة بالملذات، وسبل الرفاهية، بما يملك الشاب من سيارات فارهة وزينة وسواهما من وسائل البذخ، ما يعكس الثروة الطائلة.

لكن هذه المراكز خفتت أصواتها بعد قيام الثورات والانقلابات في العديد من الدول العربية والإسلامية، لاسيما أن الانحياز الأمريكي الأعمى وغير المحدود لإسرائيل على حساب قضية الشعب العربي الفلسطيني العادلة، ساعد على إطلاق موجات العداء للولايات المتحدة الأمريكية، بل وتقويتها.

السؤال الذي يُطرح في هذا السياق: هل أقدمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تغيير عاداتها وأساليبها في مجالات العمل على نشر نموذج الحياة الأمريكية وتكريسه بين الشعوب والدول العربية والإسلامية؟

الإجابة واضحة، أي لم تبدل شيئاً، بل مضت على طريق تأسيس جمعيات وروابط خاصة بالمتأمركين تستقطب الشباب والشابات العرب والمسلمين، بما يساعد على تشكيل تيار ثقافي مهووس بمظاهر الحياة الأمريكية وأشكالها وأهمية الاهتمام بها باعتبارها نموذجاً متفوقاً على غيره من نماذج معيشة الدول والشعوب الأخرى قاطبة، وكأن الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية هي بمثابة جواز سفر لعالم النجاح في الحياة.

ختاماً، نعود للقول بل للتحذير من أساليب الأمركة هذه التي تستهدف فئة الشباب قبل كل شيء من أجل ترويضهم أو أدلجتهم، إن صح التعبير، ليكونوا أدوات بيد الإدارة الأمريكية ينفذون ما تريده لحماية مصالحها هنا وهناك، علماً بأن عمليات الترويض والأدلجة هذه تجري تحت يافطات وذرائع خادعة.

العدد 1105 - 01/5/2024