المتاجرون بالبشر.. حرّاس الإمبريالية

بولس سركو:

تعود جذور الليبرالية كفلسفة وحركة سياسية إلى عصر الأنوار، مؤسسها الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704) وهو أحد كبار تجار العبيد في التاريخ، ولعبت علاقته باللورد أنتوني آشلي كوبر، الذي كان ممثلاً للمصالح السياسية لرؤوس الأموال في لندن دوراً كبيراً في نظرياته السياسية.

ظهرت فلسفة جون لوك أثناء الحرب بين الملك (كممثل للأرستقراطية التي عملت على الحفاظ على وضعها المتميز ومكتسباتها الوراثية)، والبرلمان (كممثل للبرجوازية الصاعدة كطبقة من التجار ورجال المال والأعمال والصناعة)، لتحافظ على توازن واستقرار المجتمع الإنكليزي، عن طريق الجمع بين حق الملكية والحقوق المكتسبة حديثاً للبرجوازية، والمحافظة على أملاك كل الطبقات وعلى الإيمان الديني من جهة واعتماد العقل حكماً في شؤون الحياة من جهة ثانية.

الليبرالية من الأساس إيديولوجية غير إنسانية خاصة بطبقة الأغنياء، ومن أجل مصالحهم تشدد على أن لكل إنسان الحق في الحياة والحرية والتملك، وتتمسك بمبدأ السوق الحر والحقوق المدنية والعلمانية والديمقراطية وحرية التعبير والصحافة والحرية الدينية، لكن الاقتصادي جون مينارد كينز (1883-1946) الذي ركزت نظريته على دور كلا القطاعين العام والخاص ناقض مبدأ السوق الحر، وشكلت نظريته نقلة في مسار تطور الليبرالية نحو ليبرالية اجتماعية تقوم على مبدأ المساواة بالتوفيق بين حقوق الفرد والجماعة، والسماح بتدخل الدولة في حدود معينة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

اعتمدت حكومات الغرب هذا الطابع الاجتماعي، وبالمقارنة بين وضعية شعوبها ووضعية شعوب المنظومة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية يستطيع المرء أن يفهم العوامل الأساسية المتراكمة التي أدت إلى انهيار المنظومة الاشتراكية من جهة، ومن جهة ثانية الفراغ الكبير الذي تركه الانهيار، فقد أزال أكبر عائق أمام الجموح الاقتصادي المتوحش، إذ سرعان ما كشرت اللبرالية الجديدة عن أنيابها معيدة قيمها الكلاسيكية، وأصبحت رمزاً للتوسع الاستعماري الجديد والهيمنة الأمريكية على العالم.

يرى الليبراليون الجدد في المنظر الاقتصادي النمساوي (فريديريك فون هاييك 1899-1992) الأب الروحي لهم الذي كان وراء التحول من السياسات الكينزية نحو السوق الحر ورفض تدخل الدولة، رأسمالية مطلقة بلا قيد ولا شرط ولا رقيب على نهبها ولصوصيتها، فالسوق من وجهة نظرها يتعارض مع الدولة ويتمتع بكفاءة تخوله الحلول محلها، وهو بحاجة إلى جمهور من المستهلكين غير المدركين لوضعيتهم كطبقة تتعرض للنهب المقونن، غير مؤمنين بالمساواة، يتحملون وحدهم تبعات تكاسلهم وفشلهم في التمايز والوصول إلى مرتبة النخب الاقتصادية. ولحشد مثل هذا الجمهور لا بد من غسل دماغه بقيم تغطي فداحة استغلاله الفظ. ولا تشكل القيم الليبرالية المشار إليها سابقاً شيئاً يزيد عن حدود هذا الغطاء بما في ذلك التركيز على الحقوق المدنية وحرية الأفراد، فهي مجرد رشوة فكرية لهدف نفعي.

الكاتب يوسف عبدالله محمود نقل في مقالته (هؤلاء هم الليبراليون الجدد) في صحيفة (الرأي)، من كتاب (بعيداً عن اليسار واليمين) للكاتب أنطوني جيدنز (المعلم الروحي لطوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، ومستشار الرئيس كلينتون، ترجمة شوقي جلال)، نقل كلام مارغريت تاتشر كناطقة باسم الليبراليين الجدد ص 39: (الناس غير متساوين بالطبيعة، لا فضل للضعفاء ذوي الحظ السيئ، فإن ما يصيبهم يستحقونه لأنه خطؤهم وليس خطأ المجتمع). وأشار إلى أن جيدنز في كتابه يستخدم هذا المحتوى الفكري نفسه، فينفي عن النظام الرأسمالي أية تهمة زاعماً أن الفقير عليه أن يلوم نفسه لأنه متعطل من تلقاء نفسه. ويتساءل كاتب المقال عن فكرة الرفاه الإيجابي المطروحة في الكتاب: (لا أعرف كيف يكون الرفاه إيجابياً دون حل مشكلة الفقر ودون القضاء على الاستغلال؟) وأضاف إن جيدنز منظر بارع للرأسمالية، فهو يجعل من العنف الاجتماعي في العالم نتيجة لصدام المصالح والصراع على السلطة، متجاهلاً أنه نتيجة لتجاهل المسحوقين الذين لا تتوفر لهم لقمة العيش.

إن الفرد الحر في مجتمع النيوليبرالية، مجتمع الفوارق الطبقية العميقة، هو المستهلك القادر على الشراء، أما غير القادر فيزدريه الليبراليون الجدد ويرمون به على هامش المجتمع ويتهمونه بالمسؤولية عن فقره، أي أنهم يتهمون ما يزيد على مليار شخص يعيشون تحت عتبة الفقر المدقع في العالم كنتيجة لسياسة تحرير رؤوس الأموال، بينما يتمتع 2208 مليارديراً، 585 منهم في الولايات المتحدة وحدها، بثروات بلغت 1,9 تريليونات دولار، حسب إحصائيات 2018.

سياسة الليبراليين الجدد لم تقتصر على إفقار الأفراد، بل خلقت تقسيماً طبقياً جديداً للعالم: شمال يتمتع بالثروات المنهوبة من الجنوب المفقر، فحتى المواطن الغربي المستهلك القادر على الشراء غير مهتم اليوم بالطريقة التي جنيت بها الأموال التي تحقق له حضوراً معترفاً به من قبل المنظومة التي تحكمه حتى لو كانت هذه الأموال نتيجة للحروب على دول أخرى صغيرة ذات سيادة وقتل مئات الآلاف بل الملايين من أبنائها بحجج متعلقة بالقيم النيوليبرالية، فقد أصبح هذا المواطن المعزول قسراً عن العالم جزءاً من المنظومة غير الأخلاقية الحاكمة التي لا يقوى ولا يفكر بمواجهتها، في ظل انقباض وشلل القوى السياسية المناهضة الفعلية للعولمة وللسياسة الاستعمارية الجديدة، فيكتفي بالتمتع بالقدرة على العيش في المركز بشكل أفضل بكثير ممن يعيشون على الأطراف المتخلفة التابعة.

الليبراليون الجدد المتاجرون بالبشر وحراس الإمبريالية الرجعيون الذين حولوا عالمنا إلى ساحات حروب ومجازر لا تنتهي، منظرون عرب يجمّلون صورة الليبرالية الجديدة ويشيعون مقولات نهاية التاريخ وشيخوخة الماركسية أو موتها وما شابه من تضليل تردده وراءهم حفنة الملقنين من ناقصي المعرفة، لكن الحقيقة أسطع من أن تخفى وراء الحقائق المقلوبة، فالليبراليون الجدد هم من دمروا العراق وليبيا واليمن وسورية، وهم من يجتهدون في تصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حق العودة، وهم من خلقوا الصراع المذهبي السني الشيعي في المنطقة الذي راح ضحيته مئات الآلاف من الضحايا، وهم الذين يساندون يهودية الدولة في الكيان الصهيوني ويساندون قوى ودول الرجعية العربية التي ليس في ذاكرتها التاريخية أدنى إشارة إلى الحقوق المدنية والحريات، دول تفرخ الفكر التكفيري وتنشر الإرهاب الدولي، وهم الذين يريدوننا أن نخون وطننا من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة، ونتحول إلى أتباع وعبيد جدد لنحظى بمكان في عالم يتحكمون بمفاصله، يمتصون دمه، وهو بالأصل عالمنا جميعاً ومن حقنا أن نعيش فيه بحرية وأمن وكرامة وعدالة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024