هذا ما حدث

بشار المنيّر:

وجّه خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة رسالة إلى الرئيس والكونغرس، طالبوا فيها ترامب بعدم (الانتحار)، وبيّنوا فيها أن الاقتصاد الأمريكي في طريقه إلى الانهيار، وأكّد هؤلاء أنّ الحروب الاقتصادية، والحدّ من حريّة التجارة، سوف توجّهُ للاقتصاد الأمريكي ضربةً قاصمةً، بل، ومن الممكن أن تتسبب في أزمةٍ اقتصاديةٍ طاحنةٍ جديدة.

المشكلة الأساسية للولايات المتحدة، هي فقدانها القدرة على المنافسة، فالعالم تطوّر ويتطوّر، والتكنولوجيا تنتشر، ولم تعد الولايات المتحدة هي (ورشة العالم)، كما كان الحال عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل إنها لم تعد تنتج كي تعيش، على نفس المستوى الذي تعوّدت عليه في السابق.

لذا تسبّب فقدان القدرة على المنافسة، وانخفاض الإيرادات، في استمرار أزمة ديون الخزينة الحالية، فكان على الحكومة والعمالة الأمريكية، منذ سبعينات القرن الماضي، أن تقترض وترفع من مديونيّتها، من أجل أن تحافظ على مستوى المعيشة، في نفس الوقت الذي كانت المصانع والعمال فيه يهربون بالتدريج، إلى أسواقٍ أكثرَ منافسةً.

كما ألقى الخبراء الضوء على خطابٍ مماثلٍ كان قد وُجّه للرئيس هيربرت كلارك هوفر، عام 1930، لكنه تجاهله، فكانت النتيجة الكساد الكبير الذي عانت منه الولايات المتحدة الأمريكية، في ثلاثينات القرن الماضي.

لن نخوض في المبررات التي استند إليها هؤلاء الخبراء، لكننا نعرف تماماً أن الرأسمالية تتعرض (بسبب قوانين السوق الحر، والمزاحمة والاحتكار)، إلى أزماتٍ دوريةٍ، تؤدي في نهاية المطاف إلى أضرارٍ مخيفة، ومدمرةٍ، لا على الاقتصادات الرأسمالية فحسب، بل تحصد تداعياتها شعوب العالم، وخاصةً الفقيرة.

لقد تنبّأ كارل ماركس بحدوث الأزمات الدورية في النظام الرأسمالي، لكنه شكّك بانهياره، نتيجة لهذه الأزمات، وأوكل هذه المهمة إلى المتضررين من كوارث الرأسمالية، وفي مقدمتهم الطبقة العاملة.

ماذا حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، وكيف اندلعت الأزمة الاقتصادية الكبرى، التي لعبت نتائجها دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل أوربا ومناطق أخرى في العالم؟.

كانت نيويورك تستعدّ لمساءٍ عادي، العمال والموظفون أنهوا يوم عملٍ آخر، المطاعم وأماكن اللهو تتهيّأ لفترةٍ مسائيةٍ، مشردو نيويورك اكتفوا من تجوالهم النهاري، وتقاطروا إلى سراديب الشوارع الكبرى لقضاء الليل، إلا أنّ ( وول ستريت)، وقبل ساعة من إغلاق البورصة، كانت على موعدٍ مع دقائقَ قاتلةٍ قادت أميركا وأوربا والعالم بأسره، إلى أزمة اقتصادية هي الأعنف منذ أن دكّت الصناعة قلاع الإقطاع، وتحوّلت الرأسمالية إلى تشكيلةٍ اجتماعيةٍ سيّدة.

لقد بدأت الكارثة مساء الثلاثاء  22/10/1929، في بورصة ( وول ستريت)، بعرضٍ فجائي، لكمياتٍ هائلة من الأسهم والسندات، وفي اليوم التالي عُرض ستة ملايين سندٍ، في السـوق، وفي يوم الخميس عرض13 مليون سهم، فسيطر الخوف وعمّ الذعر، وبدأت الأســهم تفقد حتى نصف قيمتها في يومٍ واحد.

 

وقائع:

لقد تدخّل كبار أساطين المال (روكفلر – مورغان)، في محاولةٍ منهم لإيقاف حركة البيع، لكنّ العرض توالى، والأسعار تقترب شيئاً فشيئاً من الانهيار الشامل، وفي 29 / 10 بيع 16 مليون سهم، وبدأت أزمة اقتصادية كبرى، طالت تداعياتها العالم بأسره، لقد أفلس عشـرة آلاف مصرف، وارتفعت الخسائر الصافية للشركات المساهمة الأمريكية إلى(2110) ملـيون دولار، وازدادت إلى حدٍ مخيفٍ نسبة البطالة في الشركات الصناعية الأمريكية، حيث انخفض عــدد العمال من(8830000) عام 1929 إلى(5441000)عام 1932.

لقد ساد هيجانٌ اجتماعيٌ لم تعرف أميركا مثيلاً له، ففي طبقات المجتمع المخمليّة ازدادت عمليات الانتحار، ولـدى الشغّيلة كان الحصول على أيّ عملٍ، أو تأمين وجبةٍ مجانيةٍ هدفاً صعب المنال.

انتقلت الأزمة إلى أوربا، ففي ألمانيا، أفلست (4500) شركة، وفقدت (1590) شركة مساهمة، في الصناعة والمناجم (983) مليون رايخمارك، وفي إنكلترا، هبط معدل الأرباح 37% بـين عامي 29 –32 19، وفي ايطاليا كان ميزان (2797) شركةٍ مساهمةٍ سلبياً، أما اليابان فـقد انخفض معدل الأرباح فيها بنسبة  45%، ولم تستطع الزراعة النجاة، فهبطت قيمة الإنتـاج الزراعي في أغلب البلدان بنسبة 50%. (1).

 

الدولة تتدخّل

كان من المستحيل على الحكومات، أن تترك القوانين الشهيرة لليبرالية (دعه يعمل.. دعه يمر)، أن تنتج آثارها، فذلك يعني المزيد من المآسي، والفواجع الاقتصادية، والاجتماعية، ففي كل يومٍ إفلاساتٌ جديدةٌ، ومصانع كبرى تقفل أبوابها، وجيش العاطلين بدأ يتحرك مهدداً استقرار وهـدوء النظام الاقتصادي برمته، فلجأت الحكومات إلى مجموعةٍ من التدابير الإسعافية أولاً، ثم تدخّلت بشكلٍ فعّالٍ، أطاح إلى غير رجعةٍ بمبدأ حيادها، عبر حزمة إجراءاتٍ كان من أهمها:

1-إقراض الشركات الصناعيّة عبر مؤسسة (إعادة الهيكلة المالية)، بمبالغٍ كبيرةٍ، وصـلت إلى عشرة مليارات دولار، لدفع عملية إعادة الإنتاج.

2-تحويل الدّين الخاص إلى عام، عن طريق شراء الأسهم في محاولةٍ لرفع أسعارها، في مختلف النشاطات الاقتصادية الرئيسية كالصناعة، وسكك الحديد، والمصـــارف، وشركات التأمين.

3-إغلاق الأسواق الوطنية، لمنع تدفّق السّلع الأجنبية، فنشأت حركة حمايةٍ لا مثــــيل لها، حيث صادق الكونغرس على التعرفات الجمركية الجديدة، التي رفعت ما يـقارب (900) رسمٍ جمركي، واتّبعت الدول الأخرى السياسة نفسها، وارتفع في الـدول الصناعية الكبرى، معدل الحماية الجمركية، من 5%  عام 929 إلى 23 % عــام 936.

4-إتلاف المخزون، عن طريق شراء الفائض من المنتجات المختلفة، للإقلال مـن العرض، وإبقاء الأسعار مرتفعةً، ومن ثمّ إتلافها، لتبدأ بعدها دورة جديدة، إنـتاج، مخزون، شراء من قبل الدولة الإتلاف. (2)

لقد نبّهت هذه الأزمة إلى ضرورة قيام اتّحاداتٍ صناعيةٍ متخصصةٍ، لا تترك للمنتجين الأفـراد حرية التأثير في السوق، بشكلٍ منفردٍ، حفاظاً على كميّات الإنتاج، ومستوى الأسعار، وشيئاً فشيئاً، أصبحت تلك الاتحادات تتحكّم بالصناعة الثّقيلة، والمتوسطة، ليس في أمريكا وحدها، بل في كافة الدول الأوربية، وقد شجعت الدول عملية الحصر هذه، خوفاً من أزماتٍ جديدة، وبدأت سياسة توجيه الاقتصاد، وأعاد كبار الرأسماليين النظر بمفاهيم المذهب الحر، فالعفوية هنا تعني الهـلاك، وأصبح مفهوم توجيه الاقتصاد مقبولاً لديهم، بل مطلوباً، طالما أنّ تدخّل الدولة سيعيد عجلة النظام الاقتصادي برمته، إلى الدوران، وهكذا بدأت إجراءاتٌ جديدةٌ، بمبادرةٍ من الدولة، إنها سياسة (الأشغال الكبرى)، حيث عمدت الولايات المتحدة، وأوربا، إلى إطـلاق مشاريع عملاقةٍ، لا يؤدي العمل فيها إلى زيادة العرض في السوق، كشقّ الطرقات، وإقامة السدود، والجسور، وهكذا تنشّط الطّلب على مستلزمات الأعمال من جهة، وترسل إلى جيوب العمال كتلةٌ نقديةٌ، تعـمل على زيادة الطلب على المنتجات الأساسية.

تلك كانت أهم الإجراءات التي قامت بها الدول، في مواجهة الأزمة الاقتصادية، ورغم نجاحها في التخفيف من آثار الانهيار، إلا أنّ إجراءً آخر كان يمثل الحلّ الأمثل في تلك الحقبة، إنها الصناعة الحربية، وزيادة نفقات التسلح، التي قادت بعد ذلك في كل من ألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، إلى الحرب العالمية الثانية، التي أبادت البشر والحجر.

لقد تتالت بعد ذلك انهياراتٌ أخرى للبورصات العالمية، خلال سنوات القرن المنصرم، كان أبرزها: الاثنين الأسود 19 أكتوبر عام 987، حين انهارت أسعار الأسهم، والسندات، في سوق نيويورك، فانخفض مؤشر (داو جونز) 500 نقطة، وخسرت الأسهم 22 % من قيمتها، وانتقلت الأزمة إلى بقية الأسواق العالمية، مسببةً خسائرَ إجماليةٍ بلغت (700) مليار دولا، ثم جاء دور (نمور آسيا)، في نهاية القرن الماضي، وأدت انهيارات أسواق المال في تلك الدول، إلى كـوارثَ اقتصاديةٍ واجتماعية، وأخيراً وقع الانهيار الكبير في الولايات المتحدة، في خريف 2007، الذي ما زال الاقتصاد العالمي يحصد تداعياته حتى اليوم.

 

basharmou@gmail.com

                                                              

 

المراجع

مجلة عصبة الأمم – الحالة الاقتصادية – عام 1933

هنري كلود – من الأزمة الاقتصادية إلى الحرب العالمية الثانية – دار القلم 1954  

 

 

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024