يا روح لا تحزني.. حنّا مينه بيننا!

بولس سركو:

تخطر على البال أغنية مقدمة مسلسل نهاية رجل شجاع (يا روح لا تحزني)، عند قراءة وصية صانع الأمل حنا مينه التي جاء في بعضها: (كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي وقد كرست كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض)، مشدداً على رفضه أي شكل من حفلات التأبين المنفرة، وهو في قمة المجد، فأهم الروائيين العرب رغب في الرحيل بلا صخب التقاليد والمظاهر، بسيطاً كما بدأ حياته، من حمّال في المرفأ، إلى بحّار، إلى مصلّح دراجات، إلى حلاق، إلى كاتب مسلسلات تلفزيونية، فصحفيّ، فرئيس تحرير، ثم (غوركي الكتابة العربية) كما وصفه الشاعر نزيه أبو عفش، برصيد 44 كتاباً تجمع بين الكلمة الأدبية والموقف السياسي.

ولد حنا مينه في مدينة اللاذقية في 9 آذار24 19، وانخرط في العمل السياسي منذ سن الثانية عشرة، تؤكد ذلك تصريحاته للمؤرخ عبدلله حنا في الفصل التاسع عشر من كتاب (الحركة الشيوعية السورية – الصعود والهبوط)، في حديثه عن المنظمة الشيوعية التي نشأت هناك ومكتبها العلني، ومشاركته في مظاهرة احتجاج على اعتقال سلطات الاحتلال الفرنسي لزكي الأرسوزي، التي استشهد فيها رفيقه الشيوعي عبد المسيح برصاص قوات الاحتلال وهو يقف إلى جواره، وعن خطاب خالد بكداش في سينما روكسي والحشد الكبير والازدحام الذي لا يوصف الذي حضره، وكان ذلك قبل فراره باتجاه كسب ثم اللاذقية بعد احتلال الجيش التركي لواء اسكندرون عام 1939 وعمره لم يتجاوز ستة عشر ربيعاً.

لم يكن في اللاذقية شيوعيون حين لجأ إليها حنا مينه وكل من أرتين ماخيام وقاسم رضوان اللذين كانا يقودان منظمة اللواء، حسب قوله، فبعد عام واحد فقط من وجوده هنا نظم عبد الجليل سيريس (من حلب) أول خلية شيوعية مؤلفة من ثلاثة أشخاص كان حنا مينه أحدهم، ولدى ملاحقة سلطات الاحتلال الفرنسي للشيوعيين فرّ إلى كسب باسم مستعار، للمشاركة في قيادة الشيوعيين إلى جانب إسحق حنانيان، قبل أن يعود إلى اللاذقية للشروع في تأسيس نقابات العمال مع رفاقه.

عام 1948 غادر اللاذقية إلى دمشق حيث بدأ نجمه بالصعود تدريجياً مع روايته (المصابيح الزرق) وعمله في الصحافة والسياسة ودوره في تأسيس رابطة الكتاب السوريين التي تحولت إلى اتحاد الكتاب العرب.

لتلك النشأة سجل حافل في مقالات الراحل وأعماله الروائية التي جسدت كفاحه وكفاح رفاقه، بواقعية قل نظيرها في الأدب العربي، بالأخذ بعين الاعتبار صعوبة الدمج بين الطابع المذكراتي وما يتطلبه الأدب من رفع خيالي إلى ما فوق الواقع في الكلمة والمصطلح والعبارة، ففي مقالة حنا مينة (لينين والإنسان) نقلنا من أجواء الفلسفة الفجة إلى مستوى تفكير عامة الناس في الحديث عن رجل حفر اسم لينين على شجرة كينا عتيقة، فطارده البوليس الفرنسي مما قربه من الناس الذين راحوا ينتظرون عودته، وقد جعل من اسم لينين نقشاً على قلوب الذين يريدون لأوطانهم الحرية ولشعوبهم السعادة.

في رواية (الفم الكرزي) التي حمل بطلها اسم (جواد) وهو نفسه الاسم المستعار للكاتب حين غادر اللاذقية إلى (كَسَب) مطارَداً من قوات الاحتلال الفرنسي، ثمة ميزة لم تخطر ربما على بال أحد، فالرواية هي أول عمل يتناول كفاح الأرمن ضمن الحركة الوطنية السورية ضد الاحتلال، قدّم له الرفيق الراحل واكيم أستور مؤكداً أن الأرمن ليسوا من الوافدين بل كانوا في بلادنا منذ ثلاثة آلاف عام يساهمون في نسيج تاريخها وتوطيد هويتها. وقال الكاتب نفسه عن روايته: (كسب عند الناس هي بلدة اصطياف، أما سكانها الأرمن ونضالهم الوطني فإنه مجهول تماماً، وهذا ما دفعني لتخصيص روايتي لها).

بطلة الرواية حبيبته (ييرانيك) فتاة أرمنية شيوعية من منظمة كسب، عرفت السجن هي ورفاقها الأرمن والعرب عام 1940، ثائرة مبدئية ناضلت من أجل استقلال سورية، وحين تحقق ذلك تكلمت خلال الاحتفال الكبير بالنصر في كسب، فقالت من بين دموعها بحضور حبيبها جواد: قررت أن أختار بين حبي ووطني فاخترت وطني أرمينيا، إنني مسافرة إليها مع الرفيق حنانيان. يقول الكاتب (إن ييرانيك لا تمثل ذاتها بل تمثل توق كل أرمني إلى رؤية وطنه الأم)، ويصف ذلك بالشعور النبيل. أما نضاله في اللاذقية فقد سجّل جانباً منه في رواية (نهاية رجل شجاع) التي عالجت نزعة العنف عند مفيد الوحش، وقد جيّرها في مقاومة الاحتلال الفرنسي.

كانت أولى رواياته (المصابيح الزرق) قد نشرت عام 1954، قرأتها أواسط السبعينيات وأتذكر أن هوس تمثُّل مشاهد الأحداث في مخيلتي أصابني من صفحة إلى أخرى، كنت أجد نفسي بين أولئك الباحثين عن لقمة الخبز في أزقة أعرفها وتعرفني، خاصة أنني من الجيل الذي شاهد طلاء زجاج النوافذ باللون الأزرق الشاحب أيام الحروب القاسية التي مرت على بلادنا، إلى أن صار هذا الولع الروحي مرادفاً لقراءة الأعمال الروائية للراحل.

أبطال روايات حنا مينه يبدون كأصدقاء أو جيران أو أقرباء لي، بل إنني حين رسمت سعيد حزوم بطل رواية (حكاية بحار) بعينين فاجرتين متحدّيتين لعاصفة بحرية سوداء تهب من الأفق، كان يراودني شعور بأنني وسعيد شخص واحد يمشي حافياً على رمال شاطئ المتوسط، يفكر كما أفكر ويقول ما أريد قوله، ويتذكر ويحلم كذكرياتي وأحلامي.

على الأغلب إن هذا هو شعور كل من قرأ نتاج الراحل حنا مينه وخاصة أبناء اللاذقية، فأحياؤها الفقيرة وشاطئها وميناؤها وبلداتها وقراها هي الميدان الذي جرت فيه أحداث كثيرة من ذلك النتاج، إضافة إلى الهم الاجتماعي المشترك والدقة في تصويره، فأكثر ما يميز كتابات حنا مينه عن غيرها هو هذا الفهم الجماعي للظواهر الاجتماعية، وذاك الأمل بالمستقبل الذي يقوم على النضال والتضحية.

كتب الدكتور محمد البخاري (السوري المتخصص في الثقافة السياسية وفلسفة الأدب، وهو مقيم في أوزبكستان) مادة هامة موسعة بعنوان (نظرة أوزبكستانية في الأدب السوري المعاصر) عام 2002 تمحورت حول أطروحة دكتوراه موضوعها المراحل الأساسية وخصائص تطور الرواية العربية المعاصرة من خلال مؤلفات حنا مينه وما كتبه النقاد عن أواسط القرن العشرين، جاء فيها اسم حنا مينه ككاتب مبدع وشخصية اجتماعية مقترناً بأسماء كبار الكتاب كنجيب محفوظ ويوسف السباعي وحسين مروة، دون أن يعتبر ذلك تضخيماً بل حقيقة، لأن الكاتب أعطى القارئ العربي فرصة التعرف على حياة الناس وسكان المدن السورية كاللاذقية ودمشق وحلب، وأنه تمتع باهتمام بين القراء بسبب الطبيعة الاجتماعية لمؤلفاته وصدقه في التعبير والتصوير، وهو ما أجمع عليه النقاد رغم اختلافهم حول تلك الطبيعة التي تعمد حنا مينه نقل صورها بعيداً عن الاستطالة غير الموضوعية في وضع خلفيات لوحاته التعبيرية التي يمكن أن تصرف القارئ عن الاهتمام بمصير أبطاله.

تحدث الكاتب عن حنا مينه كأكثر الأدباء شهرة في الأدب العربي، ولم تقف هذه الشهرة عند شخصيته المبدعة، الموهوبة والخلاقة والشاعرية، بل تعدّتها إلى أحاسيسه المرهفة وتجاوبه الدقيق مع روح العصر واكتشاف الواقع والتعبير عنه وعن النواحي المخفية فيه، وأشار الباحث أن اسم حنا مينه قد ظهر في الصحافة لأول مرة عام 1945 مع نشر قصته الأولى (طفل للبيع)، وفي عام 1954 نشرت روايته (المصابيح الزرق) واعتبر أن نجاح روايته (الشراع والعاصفة) بعد ذلك مثّل نجاحاً كبيراً للأدب الروائي السوري نظراً لردود الفعل العاصفة التي ظهرت في الصحافة العربية، وتابع إنه من غير الممكن أن يكون أي كاتب من معاصري حنا مينه في سورية قد حظي بمثل هذا الاهتمام وكانت مؤلفاته تُقرأ في معظم الدول العربية وتترجم إلى الكثير من لغات العالم.

حنا مينه أكبر بكثير من غياب جسد في تاريخ لن ننساه 21 آب 2018، فهو كلمة وفعل حاضران أبداً في وجداننا وضمائرنا، وكما قال هو: (الكلمة في جوهرها فكرة، فإذا وضعت موضع التطبيق صارت فعلاً، ومن الفكر والعمل هذه الروائع التي تملأ الدنيا حروفاً ورسماً ونحتاً ونغماً وبناء يشهد على عظمة الإنسان المفكر).

فيا روح لا تحزني!

العدد 1105 - 01/5/2024