رحلة بحرية.. رحلة صعبة!

حنا مينه.. حيّ في وجدان محبّيه

أحمد علي هلال:

 

 

سيظل الموت محض شائعة، وستظل الحياة ذهاباً نحو فضاءات واسعة. هكذا يمكن تكثيف رحلة سادن الرواية السورية المعاصرة حنا مينه في الزمان، وتضيق رحلته في المكان، لكنها الرحلة الشيقة في مهنة شاقة، ودالة بمغامراتها الإبداعية، ومعها نقف على حقائق إبداعية جليلة، لعل مجازها الأثير هو البحر بما يعنيه من انفتاح الدلالة على الحياة بوصفها صراعاً أزلياً، وعلى نقائضها التي مثلت كبرى التحديات لرحلة حنا مينه، تلك الرحلة البحرية بامتياز.

صحيح أن الخطاب النقدي كما الدرس النقدي قد شُغل طويلاً بخطابه الروائي الإبداعي، استبطاناً لحقائق الإبداع ودالاته عند مينه، ليستخلص منها الكثير من المآثر، لكنه لا يتجاوز على الإطلاق مأثرة مينه بوصفه الإنسان والكاتب والمناضل والحالم، وفي تلك الأقانيم المتعددة بتعدد شخصيته، سينضاف إلى الدرس النقدي ما يعينه على أن يذهب في رحلة بحرية خالصة، يقارب فيها من جديد علامات حنا مينه الأربعين، منذ روايته الأولى (المصابيح الزرق) وليس انتهاءً بروايته (شرف قاطع طريق)، وما بينهما من أعمال تكاد تؤرخ حقبة من تاريخ سورية، وأكثر من ذلك من تاريخ حنا مينه الشخصي، وفهمه للرواية، ذلك العالم الأثير بعد عبوره عتبات القصص القصيرة والزوايا الصحفية، وبهذا المعنى ظل البحر بعلامته اللغوية دالة حنا مينه الكبيرة، ليكثفها بقوله: (أنا البحر!).

هو من تنكّب أن يخوض غماره وأمواجه العاتية، كشراع في عواصف كثيرة، ويجترح شخصياته البسيطة والمركبة، فهو فارس في (المصابيح الزرق)، وهو الطروسي في (الشراع والعاصفة)، وهو فياض في (الثلج يأتي من النافذة)، وليس انتهاء بمفيد (الوحش/المنتوف).

هو شخصياته، إذاً، لكنها من وقفت على مسافة واحدة من أفكاره، وبعضها تمرد تماماً كما هو البحر بأمواجه الصاخبة، كما هي لحظات كفاحه الإنساني ليصنع فرحاً محتملاً، ولتعيش شخصياته من بعده دورة حياتها المديدة، الطاعنة بالحياة، وبممكنات الروائي (العليم)، ليجترح غير معجزة يواسي بها الأزمنة والأمكنة المحلوم بها وغير المحلوم بها.

كان سوار النار والتعب اللذيذ، والخدر اللذيذ من زنر (مهنته) وحمله على أن يجعل من البحر ذلك المعادل الأسطوري والرمزي لصراع الإنسان، ليصل إلى معنى وجوده. إذاً، ليست ثيمة البحر وحدها من جعلته متفرداً في خطاب روائي يقوم على التعدد والتنوع والصيرورات الخلاقة ديناميات النصوص الروائية، التي تواترت فيه هواجسه الرئيسة على نحو أو آخر، ولذلك تبدّياته وتمظهراته وتجلياته في غير رواية حملت مفهومه الواقعي على مستوى الشخصيات أو المقولات الحاكمة.

كتب حنا مينه ومضى إلى الذاكرة طليقاً من شبهة الغياب والنسيان، تاركاً ما اعتبره النقاد إرثاً روائياً عميقاً يستحق الالتفات إليه فحصاً لمكوناته الروائية من جهة، ومن جهة أخرى وقوفاً عن سيرورات مبدع كان أكثر ما يشغله تأثيث المكان، المكان الحلمي، أو الذاكروي، وخلق شخصيات حية كمعادل لنزوعه الفكري والإنساني والجمالي، لكن بالمعنى المقاوم والمعاند لإكراهات الواقع وتحدياته الجمة، وبالمقابل فهو من احترف صناعة الفرح الإنساني، ليجعل من رواياته أثر الأرواح لا أثر الأجساد فحسب، وخلاصة التحولات لا خواتيمها، هي مأثرة بحّار عتيق وحكّاء مترف الحكايات على تنوعها وخصوصياتها وعوالم دهشتها، لتكتمل دورة هذا البحّار أو (فتى الميناء) الذي رسم جغرافية القول الروائي دون حدود وموانع بعينها، ليفتح أفقاً في ذاكرة الرواية السورية، بوصفها رواية عربية وعالمية. بما حملته من حوامل دلالية ومقدرات تصويرية بالغة الحساسية، تحيلنا إلى ذلك الزخم الدرامي الذي اكتنزته تلك الروايات، أي في المديات البصرية للرواية، وفي قدرتها على أن تحاكي البحر بكل أمواجه الصاخبة، فتحاكي الصراع الأساسي الذي يعتور مسيرة البشر الحالمين والمهمشين والفقراء والمترفين.

ملهم السينما من أعاد الاعتبار للمكان وأرخ أزمنة بعينها، وتصادت في مقولاته مفاهيم الالتزام وأدب الالتزام، أدب الواقعية الاشتراكية بقيمها وبسياقها التاريخي، هو ملهم الرواية العربية والشاهد على تحولاتها وانعطافاتها في مشهد ثقافي مختلف، هو الرحيل في الزمن المختلف، لكنه ليس رحيلاً ناجزاً في الزمان، فنسغ الإبداع مازال يورق بأخضر القول، ملهماً لأزمنة قادمة نستعيد بها حكاية البحّار الأزلي الذي عاند مياهه وصخبه وعنفه، ليشتق منه مأثرة الحياة، دون أن يكترث بالموت إلا بوصفه مقام حياة جديدة. حنا مينه المخترق والمتخطي لأزمنته كان أبعد من (تمرين) على أبدية لا نهائية.

لم يكن (هيغو) الرواية العربية، بل كان وما زال اسمه حنا مينه.

العدد 1104 - 24/4/2024