فضاءات ضيقة.. يا بحر.. منك العتابا ومنا الميجانا!

د. عاطف البطرس:

واكبت حنا مينه في رحلته الأخيرة إلى مدينة اللاذقية، كانت أسارير وجهه منشرحة، والابتسامة تعلو محيّاه، بسيطاً في رحيله لأنه استطاع أن يحلّ في غيابه ما عجز عن حلّه في حياته. المعضلة التي أرّقته طويلاً وشكا منها أكثر من مرة، وهي كيف له أن ينقل بحر اللاذقية إلى دمشق، أو أن ينقل دمشق إلى شاطئ اللاذقية.

عاش موزّعاً كبطله (الطروسي)  بين البر والبحر، الطروسي الذي بنى مقهى ليبقى قريباً من البحر بعد أن خسر مركبه، لكنه عاد إلى بحره ريّساً على ظهر مركب ضمن له كرامته ووفر له مقومات الرياسة.

وها هو ذا البحّار العتيق، أديب البحر في الرواية العربية، يعود إلى البحر الذي أحبه، البحر الذي أطعم زكريّا من سمكه وشفى ماؤه المالح جراحه.

بعد مراسم الدفن ووفاء لتعاليم الراحل الكبير، كان عليّ أن أزور بحر اللاذقية لتقديم واجب العزاء لمن أحبه حنّا، وتغنّى به وأبدع أجمل أعماله عنه، وخلق أفضل شخصياته الإبداعية من وحيه.. (الطروسي، صالح حزوم، سعيد حزوم، عبدوش)، و(زكريا) الذي أعادت الراعية شكيبة صياغته بتحويله من قاتل إلى إنسان شفاف، شكّلته شكيبة، بعطائها وإنسانيتها وحبها، فانقلب من خشبة إلى أرقّ من عود النعناع. تلك الشخصيات التي تجاوزت حدود نشأتها وموطنها ودخلت رحاب العالمية.

برفقة صديقي صقر عليشي، ذهبنا إلى البحر وكانت الشمس قد ارتدت ثوبها الأحمر، وراحت تتسلّل مختفية ببطء. نعم، إنه البحر.. المدى الواسع، المنسرح، العميق، المليء بالأسرار وحكايا البحارة وبطولاتهم، تلك الحكايا التي أبدع فقيدنا في سردها وصياغتها.

لم أر البحر في حياتي، قرأت عنه في الكتب، لكنني عشقته من خلال رواية (الشراع والعاصفة)، عشت مغامرة (الطروسي) في إنقاذ مركب (الرحمون)، وأكبرت عطاء البحر لأنه شفى زكريا وأطعمه.. وردّدت مع حنا أغنيته المفضلة (يا ماريا)..

زرت البحر، شاهدته، لكن أن تقرأ عن البحر شيء، وأن تراه شيء آخر، أدركت لماذا عشقه الكاتب البحار الذي أوحى لي بالقول: البحر والمرأة وجهان لحقيقة واحدة هي الحياة.. عمقاً، وسعة، عطاء وغدراً، هدوءاً وانفعالاً، تقلّباً واضطراباً.. اليوم أجدني مرة أخرى أمام البحر الذي انفتح أمامي، هو بحر آخر، وديع هادئ حزين وفرح… فرح لأنه استعاد ابنه البار، حزين لأنه افتقد من يكتب عنه ويقدّر ملكاته وإمكاناته.. يا بحر، لا تحزن! افرح واحتضن فتاك، احتوِ مَن مجّدك وسبّح بعظَتمك!

يا بحر، كن كريماً معه كعادتك.. فقد كان سخياً في حياته معك ومع غيرك.. أنت تعرف معنى الكرم والشجاعة والشهامة والرجولة والوفاء، ها قد جاء إليك من جسّد قيم البحّارة، لا بالقلم والمخيلة، وإنما بالممارسة الحياتية والسلوك اليومية، فلا تخذله، وأحسِن وفادتَه!

سيّد البحّارة يعود إلى مدينة البحّارة، البحّار يكون في المقدمة، والرياسة وسام وصليب، وهو آخر من يبقى على ظهر المركب الريس.. كذلك كنت تواجه الحياة وجلّ ما تخشاه أن تغدر بك، لم تخَف منها إذا ما واجهتك وجهاً لوجه.. ما عرفت يوماً الانكسار، قاومت الفقر وواجهت الاستعمار المتحالف مع الإقطاع، سُجنت، قدت المظاهرات، حملت صليبك وصعدت إلى الجلجلة، دافعت عن الفقراء والمضطهدين حتى حصلت على شرف التسمية: كاتب الفقراء والمظلومين المدافع عن حقوقهم، لقد وهبت قلمك وجهدك الإبداعي لمناصرتهم، صوّرتهم أبطالاً في دأبك اليومي وكفاحهم من أجل حياة أفضل، كما صغت أروع أبطالك من صفوفهم، تلك الصفوف التي كان لها شرف تحدّرك منها.

لم تبِع آخرتك بدنياك.. أحسنت مثواك. عشت صادقاً مع قيمك ومبادئك، مع أفكارك وصُغت منها رؤية منسجمة متكاملة للحياة وللطبيعة وللإنسان والمجتمع، تحولت الفلسفة المادية الجدلية على يديك أدباً وفناً، في متناول القراء، من مهارتك وعمق قناعتك بها، تلك القناعة التي حولتها إلى بساطة دون تبسيط.

صُغت مثالك الجمالي من مثالك الأخلاقي، في وحدة لا تنفصل، فقدمت نماذج إنسانية خالدة سكنتْ وجدان القرّاء: فياض.. الطروسي.. صالح حزوم.. المرسنلي وشكيبته.. ربيع المياس.. ديميتريو.. عماد زكرتاوي الذي حاكمته شخوصك الروائية، فحكمت عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ.

لا تحزن ولا تغضب! كنت بسيطاً في حياتك بسيطاً في رحيلك، كم مرّة قلت لنا: لا عتب ولا عتاب، ولا فائدة من تذكر السيّئات!

نم قرير العين هانيها، بجوار من أحببت، قريباً من بحرك الذي أبدعت في وصفه وكنت وفياً ومخلصاً له إنساناً ومبدعاً.

العدد 1104 - 24/4/2024