إشكاليات الاقتصاد السياسي الفلسطيني… «اتفاقية باريس» نموذجاً!

مازالت الاحتجاجات على الغلاء الفاحش والوضع الاقتصادي الصعب في مدن الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة تشهد تصاعداً مستمراً، من دون أن يتمكن المسؤولون هناك من وضع حد لأسباب استمرار تلك الاحتجاجات، مكتفين بالإقرار بصعوبة الأزمة. فيما أكد مختصون تداخل جملة من الأسباب قادت إلى هذا الوضع، من بينها (اتفاقية باريس الاقتصادية) التي كبلت الاقتصاد الفلسطيني وجعلته تابعاً ورهينة للاقتصاد الإسرائيلي.

واللافت في هذه الاحتجاجات هو تركيزها على نقد السياسة الاقتصادية لحكومة سلام فياض ومطالبته بالرحيل.

والجدير بالذكر أن (اتفاقية باريس الاقتصادية) هي جزء لا يتجزأ من اتفاقية أوسلو السياسية التي وقّعت عام 1994 لتنظيم العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال، على أن ينتهي العمل بها عام 1999. وقد أطلق الخبراء الاقتصاديون على الاتفاقية توصيف (الغلاف الاقتصادي) حول الأراضي الفلسطينية، لأنها مشروع مريح لحكومة الاحتلال، يؤدي إلى جعل ذلك الاحتلال الأقل كلفة بين الاحتلالات التي شهدها العالم!

ويرى بعض الخبراء أن الأزمة الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية تكمن في عدم دفع (فواتير المقاصة)، أي فارق القيمة المضافة على الصادرات في إطار عملية التبادل بين السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال، نتيجة الجهل في تعامل التجار ورجال الأعمال الفلسطينيين بهذه الأمور.. ففواتير المقاصة بين الاحتلال والتجار لا تعود إلى خزينة السلطة الفلسطينية، بل إلى وزارة المالية الإسرائيلية، لأنها فواتير لا تتابعها الجهات المختصة للسلطة الفلسطينية، أو يحرقها أحياناً التجار ورجال الأعمال للتهرب من دفع الضرائب، وهذا ما يجعل 300 مليون دولار سنوياً تتجه إلى الخزينة الإسرائيلية من دون أن تستفيد السلطة من تلك الفواتير وقيمتها.

سلام نتنياهو الاقتصادي

قبل ثلاث سنوات من اليوم، ومع صعود حزب الليكود بزعامة نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، طرح زعيم الليكود ما سمي في حينه (السلام الاقتصادي مع الفلسطينيين).. وما تحدث عنه نتنياهو وقتئذ أمر مبهم وغير واضح المعالم والأهداف. وردت عليه القيادة الفلسطينية عبر أمين سر اللجنة التنفيذية لـ (م.ت. ف) السيد عبد ربه بالقول: (لا سلام اقتصادياً من دون سلام سياسي، ومن دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة). فما سمعناه ونسمعه ونشاهده من نتنياهو وأمثاله من اليمين الصهيوني المتشدد، إنما هو مجموعة من الإجراءات الكولونيالية العنصرية لتسهيل حركة السيطرة الاقتصادية، وتسهيل وسائل وأشكال الاحتواء والهيمنة على البنية والقاعدة الاقتصادية الفلسطينية، وربطها بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي، وحرمانها من الاستقلال والاعتماد على الذات.. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم يكن لديها نية يوماً ما لتحريك مفاصل الاقتصاد الفلسطيني.. فمن يرغب في الحديث عن وضع اقتصادي أفضل، فعليه بدايةً أن يعالج الموضوع السياسي من جذوره.

ومن الواضح أن العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل غير متوازنة، وتواجه العديد من المشكلات. فبعد مرور أكثر من اثني عشر عاماً على نهاية المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو، نجد أن (اتفاقية باريس) لم تتغير، والتطبيق حتى الآن أحادي الجانب، كما أن إسرائيل أخلّت بكثير من التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاقية. فمعدل الدخل السنوي للفرد الإسرائيلي هو 33 ألف دولار مقارنة ب1000 دولار للفرد الفلسطيني، وبينهما اتحاد جمركي وتجارة مفتوحة، ونتيجة عدم التوازن وإخلال الطرف الإسرائيلي بالتزاماته جرى إغراق السوق الفلسطينية بالمنتوجات الإسرائيلية، واحتجاز (إيرادات المقاصة) وابتزاز الطرف الفلسطيني بها، وتدخل المنتوجات الإسرائيلية إلى الأراضي الفلسطينية بحرية مطلقة، في الوقت الذي تعاني فيه المنتوجات الفلسطينية صعوبات جمة من أجل الدخول إلى السوق الإسرائيلية أو العربية أو الإقليمية.

لقد فرض استمرار الاحتلال مجموعة من السياسات والإجراءات التعسفية على الاقتصاد الفلسطيني، وجعل منه اقتصاداً (كمبرادورياً) تابعاً ومتأثراً بالاقتصاد الإسرائيلي.. وعلى الرغم من التراجع والتردي في العلاقات التجارية بين دولة الاحتلال والسلطات الفلسطينية، فإن حجم هذه التجارة لايزال يشكل 90% من الحجم الكلي للتجارة الفلسطينية، الأمر الذي ينتج اقتصاداً يتسم بالاعتماد المحدود على قدراته الذاتية، وبالاعتماد الكبير على الدول المانحة. وعند مقارنة الوضع الحالي للبطالة بمستوياتها في سنة ،1999 نجد أنها ارتفعت جداً لتصل اليوم إلى أكثر من 40% في الضفة و50% في القطاع، علماً أن هذه الأرقام لا تأخذ في الحسبان البطالة المقنعة. هذه الحالة تساهم في خلق تشوهات هيكلية، ربما يكون من الصعب تصحيحها لاحقاً، ولهذا فإن إيجاد فرص عمل كافية وبسرعة في كلا القطاعين العام والخاص هو الحل على المدى القريب، إضافة إلى توجيه الإنفاق نحو مشاريع البنية التحتية التي تساعد في خلق فرص عمل حقيقية، وتحسن الإنتاجية، وتساهم في تنشيط القاعدة الاقتصادية بطريقة مستدامة، وفي جعل المنتوجات أكثر قدرة على التنافس وفي جذب الاستثمار.

أين أصبحت نظرية (إنتاج الفلسطيني الجديد)؟

تنتقل فجوة القدرة على توفير مستلزمات معيشية لائقة للمواطن الفلسطيني من حقل الاقتصاد إلى حقول أخرى مثل استمرار تفاقم مستويات البطالة والفقر في الضفة الغربية، مقابل حديث عن معدلات تنمية لا يتلمس المواطن الفلسطيني تأثيرها، وكذلك العجز عن توفير الأمن والحماية للمواطن من إجراءات انتقامية إسرائيلية، على الرغم من استمرار ترويج وهم بناء (مؤسسة أمنية وطنية) في ظل الاحتلال، بل بالتنسيق معه. وجاءت الأحداث الأخيرة والهبّة الجماهيرية التي عمت غالبية المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية، كي توجه ضربة قاسية أصابت العقيدة الأمنية التي وجهت عملية بناء الأجهزة الأمنية في اتجاه واحد، وهو حفظ الأمن الداخلي، وتجاهل الخطر الرئيسي على هذا الأمن بسبب ممارسات الاحتلال. إنها عقيدة أدى مموّلو عملية بناء المؤسسة الأمنية دوراً رئيساً في رسم توجهاتها انسجاماً مع نظرية (إنتاج الفلسطيني الجديد) المستعد للتعايش مع استمرار الاحتلال دون مقاومته، كما عبر عنها الجنرال الأمريكي دايتون الذي أشرف على عملية بناء الأجهزة الأمنية في الضفة وتدريبها.. وسقطت هذه النظرية أمام الهبة الجماهيرية الأخيرة التي عمّت مدن الضفة الغربية، مع اتضاح أن تحييد المحتل في العقيدة الأمنية يفسح في المجال أمام تنامي الصراع الداخلي، وعلى مقاس مخطط (التهميش والتهشيم والتجويع والبطالة والتجزئة) الذي تسعى سلطات الاحتلال لترسيخه في الكانتونات المشكلة قسراً في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

قال الشعب الفلسطيني كلمته بكل صراحة ووضوح: لقد سئمنا الاحتلال، وسئمنا الجمود السياسي في مواجهة غطرسة إسرائيل، وهذا الوضع الاقتصاد المتردي والسيئ الذي يعانيه الشعب الصابر المناضل.. فلا يعقل أن تتواصل حياة المواطن على هذا النحو: احتلال يتحكم في كل مناحي الحياة، وسلطة لا تملك صلاحيات سيادية وغير قادرة على توفير لقمة العيش لمواطنيها بسبب هذا الاحتلال، عدا أوجه الخلل في الأداء الداخلي والانقسام الوطني والجغرافي المأسوي.

انتفاضة أسرى الحرية في السجون الإسرائيلية

في مقابل هذا المشهد التراجيدي، ظهر الفلسطيني المتمسك بحقوقه الوطنية، وبضرورة إنهاء الانقسامات والصراعات الداخلية لمصلحة التوحد في النضال ضد الاحتلال وإجراءاته العدوانية الجائرة، في مواجهة صورة (الفلسطيني الجديد) التي حاولت الإدارة الأمريكية والدول المانحة إنتاجها خلال فاعليات احتجاجية متصاعدة أدت المجموعات الشبابية والنقابية والنسائية فيها دوراً ريادياً.

لقد شكل إضراب الأسرى المفتوح عن الطعام تحولاً نوعياً في نضال الحركة الأسيرة، على الرغم من انعكاس حالة الانقسام على مدى وحدتها، وغياب الأداة التنظيمية الموحدة داخل السجون، فإن الإضراب أثار مخاوف حكومة نتنياهو- ليبرمان من عودة الأسرى، وبينهم قادة المرحلة السابقة من النضال خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، إلى القيام بدور من داخل السجون في إطلاق وتوجيه تحرك جماهيري مرشح للتصاعد في الشارع الفلسطيني، فالهبة الجماهيرية يوم 10/9/2012 رسالة مزدوجة، واحدة للاحتلال الإسرائيلي، والأخرى للسلطة الفلسطينية، وسيكون هناك خطوات تصعيدية أخرى في حال لم تجر الاستجابة لمطالب الشعب المشروعة في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الناجز.

العدد 1104 - 24/4/2024