بين التربية والأيديولوجيا

لعقود مضت، وفي ظل دستور الجمهورية العربية السورية السابق، كانت (المادة الثامنة) منه ـ وهي المادة الأشهر على الإطلاق في تاريخ دساتير البلاد المتعاقبة ـ هي المحدد والموجه لمجالات الحياة المختلفة في سورية.

جاء في تلك المادة أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع. ورغم أن تتمة نص المادة تأتي على ذكر (جبهة وطنية تقدمية) يقودها حزب البعث، ورغم وجود هذه الجبهة الفعلي على أرض الواقع بوصفها تحالفاً سياسياً يضم عدداً من الأحزاب القومية والاشتراكية، وبالتالي افتراض أنها شريكة للبعث في السلطة، فإن الترجمة العملية لنص المادة الثامنة جعلت من جميع الحكومات السورية التي شكلها البعثيون طوال عمر الدستور السابق ترسم استراتيجياتها وسياساتها العامة، أي كل ما يتعلق بشؤون الدولة والمجتمع، وبالتالي شؤون جميع السوريين، انطلاقاً من الأيديولوجيا التي يتبناها الحزب القائد، وتستند إلى تصوراته الفكرية وخياراته السياسية والاقتصادية. بعبارة أخرى كانت تفاصيل الحياة السورية برمتها تصاغ من وجهة نظر بعثية!

هكذا لم يخرج قطاع التربية والتعليم في مراحله ومستوياته المختلفة عن ذلك السياق، ونال نصيباً وافراً من التعبئة الحزبية والشحن الأيديولوجي الذي طال العملية التربوية والتعليمية برمتها، بدءا من مضمون المناهج والمقررات الدراسية ونوعية المعلومة التي تقدمها وليس انتهاء بكيفية اختيار وتعيين القائمين عليها.

قد يرى البعض موجبات لكل ما تقدم، وحين يدافعون عن تلك المرحلة ينطلقون في الغالب من زاوية الحديث عن طبيعة المرحلة التي كانت سائدة، وزخم المد القومي الذي تبع صعود حركات التحرر في العالم إضافة إلى القضية الفلسطينية وتداعياتها. ولو أن ذلك كله لا يكفي لتبرير تحويل العلوم والمعارف إلى أيديولوجيا. ومن غير المنطقي أن تقوم البنية المعرفية للطالب على الواحدية في عالم سمته التعدد، أمام طبيعة عنوانها التنوع. ومعلوم ما يفضي إليه كل نهج أحادي النظرة من إقصاء للآخر وادعاء امتلاك الحقيقة، في عصر نسبية الحقيقة والمعرفة. ذلك كله لم يمضِ دون أن يترك بصمته التي نراها تتجلى بوضوح في الأمراض التي تعتري أشكال التخاطب السياسي لدى جمهورَيْ السلطة والمعارضة على السواء.

لكن اليوم، بعد التطور الهائل الذي حققته البشرية، والتغيرات التي عصفت بالعرب والعالم، وبشكل خاص بعد كل ما شهدته سورية وتشهده من أزمة حادة آن لها أن تنتهي، والتحديات الكبرى لعملية الإصلاح الشامل، ومع وضع دستور جديد للبلاد وإقراره في استفتاء شعبي عام، بات ضرورياً إعادة النظر بالمناهج والآليات التي تحكم مؤسساتنا التربوية والتعليمية على اختلافها، لتنسجم مع الدستور الذي يفترض أنه القانون الأسمى، وبوصلة إدارة شؤون الدولة والمجتمع. خصوصاً أن المادة الثامنة التي حكمت المرحلة الماضية بالرأي الواحد لفكر البعث القائد، استُبدل بها اليوم نص يؤسس للتعددية السياسية أساس نظم الحكم العصرية وعمادها.

وهذا هو المدخل الرئيس لبناء الأجيال المقبلة على أسس حديثة وقيم عصرية تؤسس على الانفتاح وقبول الآخر والتسامح واحترام حقوق الإنسان. ذلك بالذات ما تحتاجه سورية في المرحلة المقبلة، حين تبدأ بالتعامل مع الآثار الناجمة عن الأزمة التي تعصف بالبلاد، وما سببته من تمزق في النسيج الوطني، وجراح لن تندمل بسهولة.

إن سياسة تربوية وتعليمية عصرية تقوم على تعزيز القيم التي سلف ذكرها ستكون كفيلة بتجنيب البلاد، أو على الأقل التقليل من الآثار البعيدة الأمد للأزمة الراهنة، والوطن من وراء القصد.

العدد 1105 - 01/5/2024