نتائج الثانوية والتعليم الاساسي الأبرز على الساحة السورية التعليم سياقات متناهية وكاسدة

النتائج الثانوية والتعليم الاساسي هما الحدثان الأبرزان على الساحة السورية، خاصة أن الدراسة في المجتمع السوري أحد أطواق النجاة لدى الكثير من السوريين، رغم ضآلة كل نتائج هذا المراس من الدراسة والتدريس.. لا تشكل المدارس والجامعات في سورية منشآت هامة لإنتاج المعرفة أو الوعي، بل هي مؤسسات تُشكل إشكاليات وجودية، بحكم أن وجودها غير مرتبط بكلية الدولة وإنتاجيتها، وأيضاً لا تشجع الفرد على استكشاف نفسه بوصفه داخل مؤسسة كاملة، تنتج  معارفه وتنمط نمو ما يكتسب لينحو فيه، وأيضاً لا تحفز الرغبات الناشئة، المهارية منها أو العقلية، لدى الطلاب اليافعين.

منذ الستينيات بدأ التعليم العربي بالتراجع على مستوى النوع، فرغم الدور الكبير لحكومات الاستقلال العربي من خلال بناء المدارس والجامعات داخل جميع أنحاء الأقطار العربية إلا أن المناهج لم تكن ذات سوية علمية موجهة وحداثوية، كتلك التي استهلت في البدايات الأولى للاستقلال العربي. فقد شكلَّ الأثر الاستعماري مناهج ورؤى وآليات للحالة التدريسية استفادت منها الحالة الحكومية الناشئة بعد الاستقلال، فالتركيز على اللغات المتعددة، والتوازي التقريبي في الطريقة والمنهاج التعليمي مع بعض دول الغرب، أثر كثيراً على جيل الخمسينيات والستينيات عربياً، وخاصة في بلاد الشام ومصر. إلا أن الحركات القومية العربية في ذلك الحين مالت إلى إعادة ترتيب وتغيير المناهج بشكل تام، واللجوء إلى بعض المثقفين السياسيين بدلاً من المختصين المتعلمين لإنتاج المناهج. وأصبح المنهاج في سورية مثلاً إبان مرحلة (ساطع الحصري) مملاً وعمومياً، وحُمِّل ما لم يستطع أن يوصلهُ. وجُرِّدت المناهج من تنويعاتها اللغوية- اللغات الأجنبية -، ومن مواءمتها العلمية للمناهج الغربية الحديثة. للمشكلة أبعاد عدة، بنيتها الأسمى السياسة بما فيها وما عليها، فالتنظيمات السياسية الحاكمة ابتدأت بالأعيان، وانتهت بالعسكر، والإيديولوجيا لم تكن علمية، ولم تُعكس علمياً، ولم يُرَد لها أن تكون علمية، بقدر ما أُريد لها أن تكون تنموية سلبية، تسير بالمؤسسات البيروقراطية دون أي تحقق فعلي لأهداف واضحة أو غائية.

لم يكن للأشكال السياسية الحاكمة اهتمام بالعلم، ولا فهم للعلمية وارتباطها بالدولة والمؤسسات المُسيرة، فالعلم لا يُشكل من الاهتمام الموازني الحكومي سوى 9 % فقط، ولا يقارن بما تنفقه الموازنات العربية على الأمن والجيش، رغم أن العلم والمؤسسات التعليمية لا تقل أهمية عن الأوَّليات الأمنية والدفاعية. تبرز في المناهج التعليمية الحديثة مشاكل عدة منها العمومية، والصعوبة المفاهيمية، والبساطة في المحاكاة الذهنية لعقل الطلاب. وما نتكلم عنه هو مرحلة تمتد في سورية منذ نحو عشرين عاماً. فلا نستطيع استثناء ما تقوم به الحكومة مؤخراً من تحديثات منهجية وأسلوبية، رغم استحالة ملاءمة ما تقوم به الحكومة نظرياً مع القدرات المادية والبنى التحتية للمدارس السورية.

عندما صعد الروس إلى القمر غيَّر الأمريكيون مناهج التعليم….الدرس عربياً مقلوب، فكلما زاد التخلف والفقر والاستبداد شُوِّه العلم وانتفت أدواره، وقلت منهجية الرؤية الحكومية للتعليم. في آسيا مرض شهير (مرض الشهادة الآسيوية)، أي أن الشهادة الجامعية غير موجهة لتلبي مطلباً حاجوياً، أو فراغاً مؤسسياً في الحكومة، بل هي فقط تسيير بيروقراطي كما ذكرنا. لكن لهذه المشكلة السورية أبعاداً أعمق.. فأغلب الخريجين في سورية دون عمل، والتنميط الوظيفي الحكومي غير معني بهم، وإن عُنيَ بهم كانت عنايته بما لم يختصوا به، ما لم نستثنِ الكثير من الاختصاصات التي لا تحمل في مستقبلها أي مهنة مستقبلية للطلاب.

ويشكل التعليم في سورية أزمات عدة للأهالي، فالشهادة الثانوية تشبه المرض المستعصي في مجتمعنا السوري، فالطالب موجه الإرادة ما بين الفرعين العلمي والأدبي في الغالب، والتسمية لا تُعبر تماماً عن الواقع، فلا العلم واضح في ما يسمى العلمي، ولا الأدب أيضاً موجود فيما يسمى الأدبي. هو استخفاف رمزي ومصطلحي بعقول السوريين لا أكثر، والطالب وحيد ومنمط ومجبر في كل هذا العبث، فالرغبات والأمنيات والمهارات مؤجلة إلى ما بعد الشهادة الثانوية، أما تنميطها داخل التعليم الثانوي أو الإعدادي فهو ممنوع، ولا أحد يتحدث فيه.. رغم القدرات الهائلة للسوريين في مجالات التربية والتدريس والتعليم، وأثرهم واضح في الجامعات الأردنية والخليجية واللبنانية، والانعكاس الأهم هو في المؤسسات الحكومية لتلك الدول.. فالتعليم الثانوي السوري خارج تصنيف المئة الدولة في العالم.. وللعلم إن أحد التصريحات العلمية والمنهجية لأحد الإحصاءات العلمية تؤشر إلى تدني مستوى نسبة المتعلمين في سورية في الإعدادية والثانوية.

وتخيلوا أن يكون للسوريين شعور عام بأن الامتحانات الثانوية أشبه بالحالات الامتحانية لقدرة البشر النفسية على التحمل والصبر، وتشعر بأن العائلة كلها على دراية بالمنهاج وتريد حفظه.. والأسئلة عن هذه الحالة كثيرة، هل يعقل أن لا تفرز الشخصيات الفتية في سورية انتماءاتها ورغباتها وطموحاتها داخل مرحلتها الأهم والتي تمتد منذ الثانية عشرة حتى الثامنة عشرة؟ إنه ظلم حقيقي وضياع للقوة الاجتماعية والقدرات البشرية والذهنية، فلا يمكن أن يكون هذا التنميط العنيد للدراسة منتجاً لأي شيء هام ومفيد، والمجتمع السوري يدفع يومياً ثمن هذا الأسلوب التعليمي الرديء، منهاج كامل لا يعامل إلا بوصفه أقرب إلى النص الديني الذي على كل طالب يدرسه، أن يحفظه كما يحفظ كتاباً مقدساً.. للدخول إلى الجامعة التي لا تختلف كثيراً عن الأسلوبية المنهجية المتبعة في الثانوية. فالثانوية السورية مجاز للصعوبات البدنية لا الذهنية، وقد يذهب تعب الطالب خلال سنة بشقاء ومرض بسيط في ما يسبق يوم امتحاني واحد.

ولا يوجد على ما أعتقد ما يشغل الفتى السوري بقدر دراسته وشهادته الثانوية، ولا اعتقد أن استعداداً نفسياً وشعورياً للدراسة كهذا يشجع عليها أو يحفز عليها.

ولا يعقل أن تكون الشهادة الثانوية معادلة لكل هذا الرعب أو الانشغال الاجتماعي بها، والسؤال إلى متى؟ لا أعتقد أن هناك جواباً قادماً، والمنهاج التعليمي السوري لا يسير نحو أي محاولة بناء مجتمع علمي وتقني، في زمن العلم والتقنية.

العدد 1105 - 01/5/2024