الهويات القاتلة

ولدت في مدينة حلب وعشت في أحد أحيائها القديمة، وكنا متجاورين مع الحارات الأرمنية والمسيحية، ويوجد لنا صلات صداقة مع عدة عائلات تركمانية. وأنا في الأصل من إحدى قرى منطقة عفرين الحدودية التي يعيش أهلها متجاورين أو مندمجين في الحدود مع تركيا بعلاقات قربى وزيجات دائمة إلى الآن.

أصدقائي في المدرسة متنوعو الانتماءات (حلبي – كردي – ريف حلب – مسيحي -شركسي – تركمان أرمن.. وأحياناً من مدن مختلفة). وكانت تجمعنا مقاعد الدراسة أو لعبة كرة قدم في إحدى الفسحات في حارات مختلفة، دون أي إحساس إلا بطفولتنا.كبرنا قليلاً وأصبحنا في المرحلة الثانوية، وبدأت صداقات جديدة ومختلفة الانتماءات. فبانتمائي إلى منظمة الشباب الديمقراطي والحزب الشيوعي ظهرت لي مفاهيم جديدة: الشيوعية والرأسمالية والطبقة العاملة، إسلاميون، إخوان مسلمون…فلسطينيون، عراقيون هاربون، أحزاب كردية بتلويناتها، حزبا هشناق وطاشناق الأرمنيان، وطبعاً التصنيفات السابقة بقيت على حالها، مضافاً إليها هذه التسميات التي تعرفت عليها.

ومن داخل الحزب الشيوعي السوري خرجت مفاهيم جديدة: منظمات القاعدة، جماعة بكداش، جماعة رياض الترك، جماعة يوسف الفيصل، المكتب السياسي…. وجماعة عمر سباعي ورمو شيخو.. وصولاً إلى المجتمع المدني، وجماعة قاسيون… ماعدا أحزاب الجبهة. وإلى الآن ما زالت التسميات والجماعات والمفاهيم التي كل على حدة بانتماء ما وهوية معينة داخل المجتمع وداخل الأحزاب وداخل مؤسسات الدولة ودوائرها، وكل هوية تعبر عن حاملها أو المنتسب إليها بشكل مباشر أو غير مباشر، والمعادلة مستمرة إلى اللحظة الحالية:

المعارضة، الموالاة، التنسيقيات، الجيش الحر، المجلس الوطني السوري، المجلس الوطني الكردي، الشبيحة، الصامتون، الذين لا حول لهم ولا قوة، المنتفعون من كل الأطراف. وعودة ظهور بعض المفاهيم وتفعيلها: القبلية.. العشيرة.. علوية.. سنة.. شيعة.. مسيحية.. أكراد.. شراكسة.. دروز. وبات اختيار الانتماء إلى أي هوية من تلك الهويات فيه صعوبة وخطورة في المرحلة الحالية، لحين مرور زمن طويل لوضوح الرؤية بالنسبة إلى كل الأطراف ولكل الشعب.

الآن لا أستطيع أن أحدد هويتي وانتمائي إلى أي طرف أو جهة، فأنا كردي من منطقة عفرين، أسكن في مدينة حلب – أغلب سكان حارتي من الأرمن، أصدقائي شراكس وتركمان. وفي مكان عملي الكل يتعاملون مع بعضهم بتوجس وحذر، وتحولت العلاقة بيننا كأصدقاء عمل إلى معادلة صعبة كانتماء، رغم أننا جميعاً ننتمي إلى مكان العمل نفسه وإلى المحافظة نفسها والوطن نفسه.

في كل هذه المعمعة، أين تقع سورية في داخلنا؟ أين تقع سوريتنا؟ أين الوطن منا، وأين نحن من الوطن؟ ما هو الشكل القادم لانتمائنا لسورية؟

هل سيكون تحت سقف الوطن أو فوق سقف الوطن؟ والأسوأ إذا لم يبقَ للمنزل وللوطن سقف نحتمي تحته ونفتخر به، كما كنا سابقاً نفتخر بالانتماء إلى كل هذا النسيج والأطياف والتلونات الموجودة تحت سماء الوطن؟

هذا غيض من فيض من الانتماءات التي لم آتِ على ذكرها كلها، والتي لا أعرف إلى أين ستؤدي بنا في المجهول القادم.

* العنوان مقتبس من كتاب لأمين معلوف.

العدد 1104 - 24/4/2024