فئة الشباب… فئة الخوف

في ظل ما تشهده سورية من أحداث عنف لا يُمكن لأحد أن يكون مطمئناً لما سيكون عليه الوضع الاجتماعي السوري لسنين طويلة. هذا ما لم نذكر التغيرات العظمى في السلوك اليومي والمستقبلي الذي يتوجه نحوه السوريون.

في سورية فئة غالبة النصيب في جميع التغيرات التي تمر بها سورية، فئة تُشكل أكثر من نصف عدد السوريين، وهم كما هو معروف الفئة الشابة، التي تضاف إليها إحصائياً الفئة الشابة التي مازالت في الفترة الثانوية دراسياً.

لفئة الخوف (أي الشباب) مخاوف حقيقية وتراتبية، وفي بلداننا يقترن الخوف بالصعوبة. فكما كل مجتمع تقل فيه العقلانية والتخطيط يخضع فئاته لأنواع ضياع وتشتت تُصبح ممنهجة ودقيقة ويخضع لها الجميع بمساواة تامة، كما هو حال مجتمعنا السوري. يبدأ خوف الشباب بسبب الخروج إلى المجتمع المحمل بآفات بنيوية مفتوحة، وتحيا فيه البدائية الاجتماعية، وسلطات العادات والتقاليد، وحياد الدولة المعقلنة والموجِهة للمجتمع عن كل الساحة الاجتماعية والتفاعلية. فيتحول الأفراد إلى رغبات جزئية ومتباينة، وتدخل معايير الطبقية، والمفاهيمية الحياتية على كل أشكال وطرق تفاعل الشباب فيما بينهم. فالبعد الجنسي مثلاً، والخجل بين الجنسين، وتفليس المجتمع من آليات التفاعل الذكري والأنثوي، ضمن آليات المشاركة الاجتماعية والتفاعلية والأخلاقية مفقودة بل نادرة، وبذلك يحمل الشباب الكثير من التوجهات الكبتية والمرضية منذ الصغر، وتجعل الخوف بين الجنسين ماهية للنتائج المحصودة في المستقبل. لهذه المشكلة آثار تُعيد إنتاجها العولمة الإعلامية والتوجه الثقافي العربي الرديء مقصوداً به (المسلسلات الدرامية الحديثة التي تدور حول الحب، الأغاني المصورة، التوجه الكوميدي المتوجه نحو التناقضات بين الذكر والمرأة…). ويصبح الخوف طريقة لإنتاج الغرابة واللاحقيقة، بجعل المجتمع خائفاً بذاته ومن ذاته، ويحول فئاته الشابة إلى كتلة مخاوف. ويأمل الناشطون السوريون أن يتوجه المجتمع السوري نحو الحريات الاجتماعية الغائبة لتفعيل القنوات الاجتماعية الممنهجة والدقيقة لكسر هذه الهوة التي خلفتها السلطة السورية خلال الأعوام الأخيرة. فالفقر الاجتماعي والتفاعلي السوري آفة تحتاج تناوباً كبيراً للافتعال بين الدولة والمجتمع.

تكلمنا عن جانب خائف ومحقق، لكن للخوف الحقيقي أثراً أكبر، لأنه يؤثر على سريان الحياة ويومياتها، ويجعل الفشل الذاتي قضية يومية وعميقة…. البطالة والفساد والأمراض هي المخاوف الأدق والأعمق في سورية ونصيب الشباب منها محصود يتساوى تحته كل السوريين.

يبدأ الخوف منذ الدراسة الجامعية، فالعين السورية ترى مستويات البطالة للجامعيين، والفساد يُكمل الباقي، فهو يعطل مكنة الدولة بشكل واضح، فالقطاع العام لا يتطور، بل يتضاءل مما يجعل حاجته للموظفين نادرة، ومتآكلة، ويصبح الشباب المتخرج عرضة لحكمة الشيطان في الأسواق والشركات التجارية الخاصة، التي لا تُلزمها السلطات في سورية بأعداد محددة مثلاً لتقوم بتوظيفها سنوياً اقتراناً بأرباحها أو توسع نطاق أعمالها….ولا يوجد لدى الدولة خطة لتوجيه التعليم بموازاة القطاع الصناعي أو التجاري أو الخدمي، لجعل البطالة أمراً ضيقاً ومحدوداً، بل تكون البطالة مفتوحة وحجم التوظيف محدداً بدقة شديدة. هذا ما لم نستثنِ أن أكثر من 70% من الشباب السوري يزور الجامعة ويدرس بها من دون أي رغبة بدراسة الفرع الذي يتخرج فيه، وذلك لسبب بسيط وبديهي لكنه عصي على الفهم سلطوياً، وهو أساليب التعليم الشديدة التخلف والقدم. وبذلك لا يعيد الإنسان (الشاب) السوري أياً من رغباته عملياً ولا يخدمها ثقافياً وشكلياً، مما يجعل الإحباط سيد الموقف ها هنا ما لم نقل الفشل. ولهذا الفشل علامات عميقة داخل الفئات الشابة السورية، وكثيراً ما يقال إن الحلم في دراسة الهندسة مثلاً ذهب بسبب نقص 3 علامات في البكالوريا، أو 10 على أكثر تقدير، وبذلك لا يكون مكان لا للرغبة ولا للهواية ولا لإحساس الفرد بقدرته على الإنتاج في مجال معين، وهذه الفوضى يدفع منها الكثير وطبعاً من دون آذان مصغية من أحد.

وبما أن الخوف ظاهرة عامة في وجه الجميع، لا ينأى الخوف عن الاقتراب من البطالة فقط، بل يتعداها إلى المخاوف الاجتماعية والسياسية. فالسنين الأربعين الماضية في سورية شهدت خوفاً كبيراً من الأعمال السياسية والاجتماعية مما جعل الشباب دون تلاحم موضوعي معيش، وبلا مطالب عامة ومشروعة متفق عليها للتأسيس عليها موضوعياً وسياسياً.

الخوف في سورية تحول إلى ماهية وجودية، يتناقض معها الوجود اليومي للشباب، فمنذ الولادة يرزح الشباب من الخوف الرازح فوق أعناقهم، وكما ذكرنا يغيب العقل وآلياته، وتنتفي الوضعية العلمية التي توجه البشر نحو مرتكز علمي ومُجرب للولوج تحت آلياته للاستفادة من ما يقومه العلم لتقوم به الناس.

فطغيان العاداتية الاجتماعية، والاختناق الواضح لمؤسسات الدولة وعدم قيامها بمسؤولياتها الاجتماعية أدى بالشباب للوصول إلى الضياع المفاهيمي والسلوكي، وطغى عليهم صفات هم بالذات عليهم أن يحيّدوا شخصيتهم عنها. فالأبوية الصارمة والحرة، والخوف من كون المجتمع مفتوحاً للآفات أكثر من كونه مفتوحاً للفعل الإرادي التغييري والتنويري، جعل الآباء في منأى عن الاتكال على مجتمع كهذا بِلاَّ أي زُمر أو عقلانيات أو مؤسسات مؤثرة ومنتجة.

المجتمع السوري مجتمع خائف، وينحو أفراده نحو الفردية والتفرد، ومازالت الأسرة أكثر تمرساً، والعائلية أكثر تفاعلاً. إن أكثر ما يُجذر الخوف هو الفقر السياسي، وخاصة عندما يتراكم الخطأ على مدى عقود. فأغلب المشاكل الاجتماعية تحتاج إلى دولة قوية بالدرجة الأولى تستطيع عكس خيارات شعبها وحاجته الأولى والمتزامنة مع حياته اليومية، واستطاعة الدولة عقلنة عملها وجعله علمياً بدرجة شديدة العلو والدقة، فتصبح فلسفة الدولة الراعية سبيلاً لتفتيت الخوف وتنحيته عن الشعور العام للسوريين. ورغم الاتكال الهام على الدولة بصفتها ناظماً أخلاقياً للعلاقات بين المكونات الاجتماعية، إلا أننا لا نستطيع الاستغناء عن المجتمع لا لأنه مسرح للعادات والتقاليد، بل لأنه مساحة لتفاعل الكل ومشاركتهم. فالبناء قضية يومية الكل يستطيع العمل بها، وخاصة أن المسرح الاجتماعي السوري المكبوت والمغلق شتت الأفراد وجعلهم مهارات راغبة دون آليات تنفذ وتعمل عملياً.

للخوف سمات واضحة لكنها ليست حتمية، تناقضاتها تُحل وتختفي بقدر ما يُسمح للعمل السياسي والاجتماعي بالعمل والتحرر.

العدد 1104 - 24/4/2024