نزيف الوطن وهجرة الشباب

تتعدد وجهات الشباب ومقاصده وأبعاد طموحاته وتتوه أحياناً، ضالةً الطريق – كما يصفها البعض – ويلومها أنها تختار الهجرة مقصداً.

تتعدد الأسباب، فربما يكون أغلبها البحث عن المال، وبعضها القليل هو استكمال الدراسة والتعليم وإيجاد عمل يحقق الذات. فبالنسبة إلى البحث عن المال، كانت الهجرة مبررة لمن يمتلك خبرة ولم يستطع العمل بها ضمن وطنه، أو عمل بها مقابل مرتب ضئيل لا يضمن حياة مادية كريمة له، وكانت الهجرة أيضاً مطلباً للباحث عن مصدر رزق.

ونظراً إلى توجه حياتنا إلى حياة مادية ومحوره البحث عن مزيد من الترف، والسعي لعيش ضمن ظروف مادية أفضل والاتجاه نحو البذخ، أصبحت حياتنا مقلوبة القيم والمفاهيم. إضافة إلى مشاهدة الناس نتائج السفر، كعودة بعض المهاجرين الذين حالفهم الحظ بسيارات فخمة خلال فترات الاستراحة، بعضها لإثبات الذات وتجسيد النجاح في مغامرتهم في الخارج، وبعضها بسبب النجاح الفعلي وخاصة عند تأمين هؤلاء المهاجرين للمسكن الذي يعد تحدياً أمام أغلب شبابنا الذي يريد الاستقرار والزواج. إن الجهل بالظروف القاسية والمعاناة الشديدة في بلاد الغربة يدفع العديد من الشباب إلى التشبث بهذا الخيار الوهمي الذي أدى إلى ارتفاع عدد المهاجرين من الشباب، ومنهم من تخلى تدريجياً عن الدراسة والتحصيل العلمي، وخطَّط في سن مبكرة لمشروع الهجرة والتفكير في إنجازه. وأحياناً أصبح الأهل يشاطرون ابنهم الحلم نفسه وهم يضحون بكل غال ونفيس لمساعدته على الهجرة. وأبسط ما يقوله هؤلاء عند سؤالهم، وخاصة الدارسين منهم: إن الغربة شعور سيئ جداً، ولكنه أسهل من أن تعيش غريباً في وطنك، تموت جوعاً بعد أن بذلت سنوات من الدراسة والتعب لتحصل على معاش لا يكفي لفرد، فكيف يمكن أن يتزوج الشخص ويكوِّن أسرة.

أما من يحلم ويطمح بأن يتطور، كأن يتابع دراسته في الخارج أو أن يطبق علمه بشكل عملي ويحصل على خبرة ذات مستوى عال، فإنه لا يحاول العودة بسبب عدم الاحترام وعدم تقدير الكفاءات والعقول الموجودة في بلادنا.

هذا هو نزيف الكفاءات، نزيف الوطن الموجع الذي يبكي نفسه بأبنائه المتخلين عنه قسراً. وهنا يبقى التساؤل المحير نفسه: هل كان من الممكن لهذه الكفاءات أن تبقى هنا، وتخدم الوطن مراهنة على أنها ستنجح دون أن تخسر نفسها؟ أم إن الأفضل أن تهاجر وتكسب نفسها، لأنه ما من فائدة في بقائها ضمن هذا الفساد السائد في البلاد، والأفضل هو الهروب من الواقع.

إذاً من سيبني الوطن ضمن هذا التناقض الذي يعيشه الشباب؟ فهو شباب مثقف يسعى لأنظمة تضمن وتحمي حقوقه وواجباته لا أن تسلبها وتسعى لإشراكها في لعبة الفساد، وبين الحقوق التي يشعر بامتلاكها في الخارج وحرية تعبيره عن ذاته مع حرمانه من أهله وأرضه، يبقى الخيار الصعب للشباب، ويبقى الوطن منتظراً، والمجتمع راكداً يبحث عن منقذ.

العدد 1104 - 24/4/2024