الهجرة.. هل هي الحل..؟!

لم يبقَ في سورية شيء، هذا ما يقوله الآلاف من الشباب السوري. لا مستقبل واضح، لا خيارات ولا ممكنات، عبثٌ وقتل وجنون وعنف وهوس في ضرب غرائز الحياة قاطبةً.

نَحت سورية في أزمتها إلى تحطيم الكيانات والرغبات والأحلام لدى السوريين، وخاصة أن الصراع في سورية يضرب الحياة اليومية، والأمل المرجو في بناء الحياة الخاصة للأفراد، فالأزمة الاقتصادية بنيوية، رغم عقيدة الإنكار المضحكة لدى الحكومة. وأصبح إنكار النظام لعمق الأزمة -وتجاهلها غالباً- مرضاً نفسياً شديد التأثير والوطأة. يُحكى أن ما أثاره العنف في سورية غريب وقياسي…. وخاصة أنه بشقين، شق داخلي تمثل في الهجرة الداخلية (داخل المدن والأرياف السورية)، وشق خارجي متعاظم يقع بين اللجوء إلى الدول المجاورة،  واللجوء الحاجوي بأشكاله، إما للعمل وهو الغالب، أو للخروج الآمن من دائرة العنف المجنونة.

 

الأزمة في سورية ذات عمر طويل، والحلول السياسية تتهافت دون أي جدية، والعقوبات الاقتصادية آثرت أن تمتد وتتكاثر أكثر فأكثر، حتى أصبحنا محكومين باقتصاد ضعيف جداً، وغير تنموي ولا بنائي، وهو من دون أزمة كان ضعيفاً، ويستفاد منه بالفئوية فقط. لم يكن اقتصادنا موجهاً أو عاماً، بل هو اقتصاد قلة من الأغنياء مستفيدة، لا أكثر… وكان للشباب البطالة والعجز فقط، مما جعل الشاب السوري شاب رغبة فقط، يتمنى السفر إلى خارج وطنه الأم ليبحث عن عملٍ يحمي وجوده ويُشكل له ملكية خاصة يستطيع من خلالها إعادة إنتاج حياته. فلا أمل في سورية الضعيفة هكذا، فهي من دون أزمة تعاني هجرة خارجية كبيرة، بسبب قلة الفرص، وفساد الأساليب الجاذبة للمواهب والخبرات العالية وضعف الدخل بالنسبة لمستويات الأسعار. فتخيل أن راتب مهندس مثلاً في سورية قد لا يسمح له بشراء منزل ولو جمع استحقاقه (الراتب) لمدة ثلاثين عاماً. وطبعاً هذا الرقم دون أن يصرف ليرة سورية واحدة. بالتالي تشكل سورية نموذجاً متخلفاً جداً للدولة الاجتماعية أو الراعية، وشبابها بلا أمل بالمطلق، هذا ما لم نتكلم عن سوء المنهاج التعليمي وفقر المجتمع وابتعاده عن العلم وابتعاد الدولة أيضاً عن إيلاء أي أهمية للمناهج التعليمية وتقويمها لتلائم المشاريع الإنتاجية التي قد تقوم بها هي أو القطاع الخاص، وذلك لإدخال توجيه التعليم ليراعي الإنتاجات المادية للمجتمع.

في كل هذا ليس للدولة السورية من مكان، هي حيادية عن مجتمعها، وعن حرياته ومطالبه وزمره وفئاته، ولا يستطيع الشباب في أي مكان داخل سورية التعبير عن أنفسهم، أو تجميع مطالبهم، أو أن يجدوا قناة واحدة يستطيعون من خلالها الظهور والتمثل بمطالبهم وهمومهم، ولا حتى رغباتهم ومواهبهم.

قد تدفع هذه الحيادية للدولة عن المجتمع السوري إلى أمرين أعتقد أنهما كرسا خلال الأعوام الأربعين عاماً الأخيرة. الأول: صفرية السياسة اليومية وغياب التجمعات السياسية والعقلنة الاجتماعية عن كل عمل منظم سوري. الثاني: عدمية الشاب السوري وتحويله لأناة خالصة فردية تسعى فقط لنفسها، دون وعي وطني أو اجتماعي. فالمصالح والرغبات هي الحاكمة والقوامة على فعل الشباب السوري. وهو حق مادام له حق لدى نظامه السياسي في تأمين عمل ومسكن وحياة صحية واجتماعية وحكومية نزيهة، وهذا النظام تناسى الحق، ولم يسمح للشباب حتى بالتعبير عن أنفسهم بتأمين قنوات اجتماعية سياسية تحفظ وجودهم، من كون الفعل السياسي والاجتماعي تنفس أي حق ووجوده.

ستدفع سورية مشكلة هجرة الشباب إلى الخارج نتيجة لترهل الدولة وفشلها في تأمين حياة كريمة لشبابها، بناة أوزار أسوارها في المستقبل. المشكلة اليوم هي في عمق عدمية الأزمة السورية الحالية التي ضاعفت حجم الهجرة آلاف المرات، وقلصت أحلام السوريين وألغتها، وخاصة أن الدمار الحالي للنفوس والأمكنة والمحلات والأبنية وكل شيء يترافق مع بعضه بعضاً ليسيء إلى كل شيء سوري مستقبلي أو آني.

أما الشباب الذين استطاعوا النجاح في الخارج فهم شجعان، وإرادتهم حكيمة وقوية. فالإنسان يقع في مرات قليلة داخل حيز الاختيار الصعب والحكيم، والأندر من ذلك هو النجاح في بيئة جديدة كل الجدة، وتحقيق رفاهية معقولة تجعل الإنسان داخل حيز العدالة التي يستحقها البشر جميعهم.

الهجرة من سورية غالباً تحقق العدالة ولو بشكلها الجزئي، فالإنسان كائن احتمالي ورغبوي بشكل كبير، وهذه الرغبة لا صدى لها في سورية. الفقر الذي يعيشه أغلب السوريين عميق ونتائجه أسوأ، والأزمة حولت الفقر إلى فاقة شديدة، جعلت كل سوري في منأى عن التفكير في حلمه أو رغبته أو رفاهيته، وعلى كل حال تُشير التقارير أن أغلب القطاعات الفاعلة داخل القطاع الخاص بدأت بفسخ عقودها بسبب تأثير الأزمة الاقتصادية على أحوالهم، مما سيجعل للهجرة أبواباً مفتوحة دوماً لتحديد المصير ورسمه.

إنها الضرورة غالباً، والهجرة ضرورة لا رغبة في الغالب، ضرورة لتأمين الحياة والوجود لا أكثر، على من يعنيه الأمر أن يفكر، إن الهجرة ليست سبباً لشيء، هي نتيجة أشياء كثيرة، من فساد، وإثراء، وإخضاع وخضوع وقهر، والأهم صفرية الأخلاق والسياسة والعمل الواعي والتخطيط العلمي.

سورية بحاجة لشبابها.. صحيح أن الوضع لا يساعد حالياً على تلبية مصالح شبابنا، وصحيح أن تجاهلاً مستمراً كان موجهاً لمشاركتهم السياسية والاجتماعية، لكن هل الحل هو إفراغ سورية من شبابها؟!

العدد 1104 - 24/4/2024