كيف صنع العرب ديموقراطية البداوة

وصف الشيخ عبدالله العلايلي اللبنانيَّ بقوله: (هذا البدوي المتأنق)، وهو وصف دقيق بأبعاد متنوعة، لأنه يطاول مرحلة ممتدة من التاريخ العربي الحديث والمعاصر. فإذا كانت الديموقراطية التي يتغنى بها اللبنانيون ليست سوى الزينة للعصبيات العائلية والطائفية التي تتحكم بلبنان منذ أكثر من قرن، وتركت آثاراً دامية ومستمرة في تاريخه الحديث والمعاصر، فكيف توصف الديموقراطية في مجتمعات عربية لم تبتعد إلا قليلاً عن البداوة الحقيقية؟ علماً أن نفوذ زعماء القبائل والعشائر، والتحالف بين العصبية القبلية والعصبية الدينية أنتجا معاً صراعاً مستمراً بين القبيلة والدولة العصرية على امتداد العالم العربي.

كُتبت حول هذه الظاهرة دراسات علمية رصينة بمناهج تاريخية وسياسية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية متنوعة، وتكاد هذه الدراسات تُجمع على أن القبلية تسيطر على الدولة العصرية. وفي هذا دلالة واضحة على أن التاريخ العربي يسير بالاتجاه المعاكس، بعد توصيف المرحلة الراهنة بأنها عودة من الدولة إلى القبلية، ومن الانتماء الوطني إلى الانتماء القبلي، يضاف إلى ذلك أن مؤسسات الدولة العصرية لم تصمد طويلاً، وأنّ مؤسسات المجتمع المدني المرافقة للدولة العصرية عجزت عن مواجهة مؤسسات المجتمع الأهلي السابقة على ولادتها، وفي طليعتها الطائفة والقبيلة والعشيرة. من هنا، يشكل كتاب الباحث غسان الخالد (البدوقراطية: قراءة سوسيولوجية في الديموقراطيات العربية)، الصادر عن (منتدى المعارف) (بيروت 2012) ، إضافة نوعية في هذا المجال. فقد تضمن عناوين بارزة كالديموقراطية الشعبية، والشوراقراطية، والديموقراطية التوافقية على الطريقة اللبنانية، والعصبية والدين والسلطة، والسلطة في الذهنبية القبلية، وإشكالية المواطَنة والرعية، وأخيراً البدوقراطية. يبدو أن المؤلف أعطى العنوان الأخير للكتاب بأكمله، لأنّ المصطلح جديد ويستحق التوقف عند نقاطه الثلاث: التنظيم السياسي القبلي، وتعريف البدوقراطية، والديموقراطية في الوطن العربي.

 

الديموقراطية العربية

تأسس الجانب النظري فيه على خلفية متداولة، مفادها أن الديموقراطية وجدت في الغرب بيئة ملائمة وحاضنة لها، فتفاعلت معها تدريجياً إلى أن دخلت في صلب الذهنية الغربية وتحولت ثقافة عامة ترى الديموقراطية منهجاً في التفكير وأسلوباً في العمل السياسي أكثر مما هي صيغة مرسومة المعالم ومحددة المنبع. بالمقابل، واجهت الديموقراطية في المجتمعات العربية العصبية الدينية الحاضرة بقوة في البنى الاجتماعية. وشكل تحالف البيئة الاجتماعية والدين الإسلامي منظومة قيم ثقافية واقتصادية وسياسية قادت مجتمعة إلى ولادة ذهنية عامة تسم المجتمع العربي بسمات خاصة جعلته عاجزاً عن التفاعل الإيجابي مع المفاهيم الخارجية، خاصة تلك التي فُرضت عليه بالقوة.

مفهوم البدوقراطية لا يقدم إضافة نوعية في علم الاجتماع السياسي، كمصطلح الشوراقراطية، التي تعني المواءمة بين مفهومَيْ الشورى الإسلامي والديموقراطية الغربية. لكن أهميته، في رأي المؤلف، أنه مصطلح يعبّر عن البنية الاجتماعية ومنهج التفكير الذي يغلب على المجتمع العربي مقروناً بآلية العمل السياسي التي يسميها خلدون النقيب (القبلية السياسية) أو الديموقراطية القبلية. لذلك، أسهب في استعراض المدلولات العملية للمفاهيم النظرية، كالديموقراطية الشعبية، والشوراقراطية، والديموقراطية التوافقية، والعصبية وعلاقتها بالدين والسلطة، والسلطة في الذهنية القبلية. وتوقف مليّاً عند شرح مفهوم البدوقراطية، الذي يطاول مختلف مجالات الحياة ، مؤكداً وجوده كنسق سياسي موروث وممارس.

انطلق تحليل مفهوم البدوقراطية من أسس الحياة الاجتماعية في الصحراء، حيث لا يستقيم دين إلا بجماعة، ولا تكون جماعة إلا بالسمع والطاعة. لكن العصبية لا تتوسع فقط بالسمع والطاعة، بل وأيضاً بالتحالف القائم على الزواج. وليست القبلية على هذا الأساس مجرد ارتباط بالدم، بل لها أوجه ثقافية وتربوية واقتصادية وسياسية مختلفة. علماً أنّ هذا المفهوم بُني على مقولة نظرية ترى أن ثمّة تشابهاً بين الذهنية والوجدان الجمعي. فالذهنية هي سلسلة من النماذج الجاهزة والموروثة والتقليدية الصالحة للسلوك الراهن. و تعود صلابة الذهنية إلى العناصر الأربعة التي تتشكل منها، وهي: التجربة السياسية التاريخية، وإطار المجتمع الاقتصادي الخاص، والظروف والبيئة الجغرافية، والنسق العام للثقافة ومنظومة قيمه الأخلاقية وتصوره للكون.

ويقوم التنظيم السياسي القَبَلي على الزعامة السياسية في القبيلة والعشيرة، ويرتبط بمفهوم الجاه والعوامل المساعدة. أما المشيخة الوراثية، فعلى صلة بمجلس الشورى داخل العائلة في معظم أقطار الخليج العربي.

فالبدوقراطية تعريفاً هي نظام حكم سياسي تكون الممارسة السياسية فيه وفقاً للذهنية القبلية، أما الديموقراطية فلا تزال مشروعاً لم تكتمل فصوله حتى في أكثر البلدان ديموقراطية. وهو لا يزال ضبابياً في العالم العربي المحكوم بالذهنية القبلية، مع ما يتبع ذلك من آثار سلبية على الدولة العصرية -أو الحديثة- ومؤسساتها وقوانينها وسلطاتها التنفيذية والتشريعية. إضافة إلى فشل مبدأ فصل السلطات، ومفاهيم الحرية، والوطن والمواطَنة والسيادة وحقوق الإنسان العربي الفرد.

يضاف إلى ذلك أن المجتمع الأهلي في البدوقراطية العربية ما زال نقيضاً للمجتمع المدني، مادام أن المجتمع الأهلي غير خاضع بالمطلق لسلطة الدولة، في حين أن قوّة المجتمع المدني هي من قوة الدولة العصرية، والعكس صحيح . أمّا وجود مؤسسات عصرية في دولة ضعيفة فلا يؤكد بالضرورة على وجود الديموقراطية فيها. لذلك بقيت مؤسسات المجتمع الأهلي قوية ومتماسكة في ظل أُسر عربية حاكمة منذ عقود طويلة، وعززت وجودها بالتضامن العائلي عبر المؤسسة القبلية، والمؤسسة الدينية، والتجّار، وقادة الطوائف، وشرائح من الطبقات الوسطى والعمال من المواطنين، وهي كلّها ذات صلة بالدولة التضامنية في صيغتها البدوقراطية.

بقي أن ننبه إلى أن انتشار التعليم لم يخفّف من الوعي القبلي، بل زاده صلابة في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الدول البدوقراطية، وهي لا تستطيع إقامة التعارض مع السلطة الدينية، بل تتسامح مُكرهة مع مؤسسات دينية أو طائفية باتت تنازعها ولاء المواطنين في المرحلة الراهنة. ومردُّ ذلك إلى أن المؤسسة الدينية في دولة البدوقراطية هي امتداد لسلطة الدولة التي تمنحها صلاحيات واسعة للرقابة على الناس والكتب والفنون والمطبوعات والمسرح والأغاني والنوادي الفكرية وغيرها.

مع إعادة إنتاج الذهنية القبلية انتفت كل أشكال الديموقراطية السليمة، وهيمن زعماء الطوائف على المجتمع باسم الدين، وزعماء القبائل باسم العصبية القبلية. لذلك يدور العالم العربي في حلقة مفرغة بين البدوقراطية، من حيث هي قوة سائدة ومسيطرة بالعنف الرمزي والمادي، وبين الديموقراطية المغيبة مع الديموقراطيين، بسبب هيمنة مجالس الشورى الدينية، والذهنية القبلية، وهما تشكلان السمة الأساسية للمجتمع العربي المعاصر.

أخيراً استوضح المؤلف ملامح المستقبل في ظل ما يشهده العالم العربي من حركات احتجاجية وصفت بالربيع العربي. ويبدو أن الأمل في تغيير هذه اللوحة السوداوية ضئيل، فالديموقراطية السليمة بحاجة إلى قوى اجتماعية كبيرة وممارسات عقلانية متدرجة للاستفادة فقط من كل ما هو إيجابي في التراث العربي. لكنّ نجاحها يبقى رهناً بتجاوز البدوقراطية وأخواتها، مع الانفتاح التام على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة لتوليد تراث عقلاني جديد يقيم التوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويكون قادراً على مواجهة تحديات عصر العولمة.

إنه كتاب متميز يقدّم إضافة نوعية إلى المكتبة العربية.

 

عن الزميلة (الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024