مكب النفايات في باب شرقي.. قوانين خاصّة في عالم آخر

أطفال ونساء يتعرضون للانتهاكات اليومية لأجل قوت يومهم

 

 شباب ونساء وأطفال لم يتجاوزوا سنتهم السادسة، أضناهم الفقر فلجؤوا مضطرين إلى الخلاء حيث مكبات النفايات ليعملوا بفرزها وبيعها.. بعضهم يعمل على نبش حاويات النفايات في المناطق السكنية، وبعضهم يعمل في مجمعات النفايات كمكب القمامة في منطقة باب شرقي، الذي تشعر عند الدخول إليه وكأنها رحلة إلى عالم يبدو في لحظته الأولى أنه عشوائي يحكمه العوز وتسيِّره الحاجة، وبعد لحظات من المكوث هنالك تتجلى لك مجموعة القوانين والأعراف السائدة، فمن يستولي على أنقاض الحديد ليس ذاته من يستولي على أنقاض البلاستيك مثلاً، وعلى حد تعبير أحدهم (الحديد للمعلم).

ويتوجب على من يريد العمل داخل المكب دفع مبلغ خمسمئة ليرة سورية يومياً، مقابل السماح له بنبش النفايات وأخذ ما يريد منها باستثناء المعادن، دون مراعاة أصحاب الشأن لعمر العاملين وإمكاناتهم الجسدية، مع وجود كثيرين يجوبون الطرقات يبحثون في النفايات بحثاً عن بقايا طعام أو بعضاً من الملابس يسترون بها أجسادهم.

لقد باتت مهنة جمع النفايات مهنة منظمة لها سوقها وأسرارها وخصوصيتها وكذلك مخاطرها البيئية وأضرارها الاقتصادية على المجتمع، ناهيك بالتردي الصحي للعاملين فيها، ففي قاع المجتمع يوجد الكثيرون الذين يعانون مقابل قلة في الأعلى يديرون الاقتصاد بطريقة الفساد مخرجين من الدورة الاقتصادية 40-50% من الدخل القومي، فباتت (كمافيات) تعمل بشكل متوازٍ مع الاقتصاد الوطني.

 

بين أخذ ورد

للوقوف حول هذه القضية التقت (النور) السيد عدنان أبوحوا مراقب مجمع نفايات باب شرقي الذي قال: (إننا نعاني صغر حجم المكان كثيراً، إذ تجمع القمامة من كل دمشق هنا، وتنقل إلى معمل القمامة بنجها، بعد ذلك يستخدم 10% منها سماداً والباقي يطمر، وبانتظار أن ينقل المكب إلى المجمع البديل في السبينة). وعن العمر المسموح به للعمل قال: (لا يسمح بالدخول لنبش النفايات لأي شخص لا يحمل هوية أو أوراقاً ثبوتية، ليقوموا بتجميع البلاستيك والزجاج والحديد والنايلون وغيره ويبيعوه لحسابهم الخاص، وذلك وفق عقد بالنبش مع محافظة دمشق، يضاف إلى ذلك أن نقل النفايات يتم باتفاق المحافظة مع أحد المتعهدين).

وأكد السيد أبوحوا أن مديرية النظافة تداوم يوم السبت دون أي تعويض، إضافة إلى غياب التعويضات التي تنسجم مع ما يتعرضون له من أمراض وسموم نتيجة عملهم في النفايات، وبالنسبة إلى اللقاحات قال: (يعطى اللقاح فقط للموظفين الرسمين، فالعاملون في النبش الذين يتواصلون مباشرة مع القمامة غير مشمولين بهذه اللقاحات أنهم مؤقتون أو يعملون مياومين).

ولكن الوضع داخل المكب كان مغايراً لتصريحات أصحاب الشأن، ففي بداية دخولنا التقينا فتاة في العاشرة من عمرها تدعى شام، وعند سؤالها عن سبب عملها بنبش النفايات وما يمكن أن يلحق بها صحياً، أجابت بحزن وحسرة: (لا أرغب في هذا العمل، ولكني مجبرة على ذلك وإلا سأواجه ضربات والدي الموجعة وإهاناته)، وأضافت: (كم أتمنى أن أذهب إلى المدرسة وأتعلم أسوة بغيري من الأطفال، فأحب أن أصبح طبيبة أساعد أخي الذي أقعدته إحدى ضربات والدي).

ولم يكن وضع محمد (15عاماً من دير الحجر) أفضل، فرغم ضآلة جسده إلا أن القدر شاء أن يعمل في النفايات لإعالة إخوته الصغار وأمه التي تساعده في العمل، وقال: (قبل وفاة والدي منذ خمسة أعوام كنت أحب المدرسة وأواظب عليها، ولكن أحلامي ذهبت أدراج الرياح من أجل تأمين لقمة العيش لإخوتي الصغار).

ويبقى السؤال: أين الجهات والمؤسسات المسؤولة عن حماية الأسرة لتعين أطفالاً شاءت أقدارهم أن يتعرضوا للخطر والمضايقات والتحرش نتيجة استهتار أهاليهم وجشعهم.

ولم يكن حال أم محمد أفضل إذ قالت: لم يعد بإمكان زوجي تأمين متطلبات الأسرة فتوجب علي مساعدته، وإني أعمل هنا في منذ عام تقريباً مدة ثماني ساعات على الأقل يومياً. ولدى سؤالها عن الإصابات التي تتعرض لها واللقاحات التي تتناولها قالت مازحة: (لا نأخذ أي لقاح، ربما لأن رائحتنا تبعد حتى الجراثيم).

فالأزمة التي يشهدها الشارع السوري اكتوى بنارها الجميع، فخالد. م أحد العاملين بنبش النفايات يقول: (كنت أعمل في (منجرتي) التي توقف عملها في ظل الأزمة الراهنة، وبعد مكوثي ستة أشهر دون عمل لم أجد إلا مكب القمامة فاتحاً أبوابه لاستقبالي).

ومن ناحية أخرى قال أحد العاملين في المكب: (إننا ندفع مبلغ 500ل.س للمتعهد المسؤول عن ترحيل القمامة ليسمح لنا بالدخول والبحث بين النفايات، وهو يمنعنا من أخذ المعادن لأنه يبيعها لحسابه الخاص) الأمر الذي أكده أيضاً عامل آخر من منطقة المنصورة (18عاماً)، وتساءل: (هل بات الكبار يقاسموننا على أرزاقنا حتى في أبسط الأمور؟).

وإذا سألنا عن أسباب تفضيل أصحاب العمل للأطفال والنساء، فلأنهم أكثر طواعية ويقبلون بأبخس الأجور، ما ينجم عنه التسرب الدراسي نتيجة توجه الأطفال إلى العمل في سن مبكرة لغياب الرقابة الفاعلة، على الرغم من توقيع سورية على اتفاقية الحد من أسوأ أشكال عمل الأطفال، إلا أنها حتى الآن لم تفعل.

 

القانون الغائب..!

وللوقوف على رأي قانون العمل قالت المحامية ميسون رسلان: (إن قانون العمل الجديد شمل مواد تحدد العمر القانوني لعمل الطفل، وهو سن الخامسة عشرةً وفق المادة ،113 وألا تزيد ساعات الدوام على6 ساعات تتخللها فترة للراحة وتناول وجبة الغذاء. بمعنى أنه لا يجوز للطفل أن يعمل أكثر من ثلاث ساعات متواصلة وفق المادة 114. كما أنه لا يجوز أن يعمل الطفل خارج أوقات الدوام). وتابعت تقول: (أوجب قانون العمل الجديد على صاحب العمل الذي يقوم بتشغيل الأحداث بتحرير كشف فيه أسماء الأحداث وأعمارهم وتاريخ استخدامهم، ويوضع فيه ساعات العمل وفترات الراحة. كما أنه لا يجوز لصاحب العمل (المنشأة) تشغيل أي حدث دون أن يقدم الولي عليه أو الوصي عليه المستندات: (إخراج قيد مدني، شهادة صادرة عن مختص تثبت قدرته على العمل، موافقة الولي أو الوصي الخطية على العمل).

وعن الثغرات في قانون العمل الجديد قالت: (يحوي القانون الكثير من الثغرات، فقد اقتصر على العاملين في المنشأة. ومع ذلك لم تفصل في عقود العمل، كما أنه أغفل هؤلاء الأطفال في الأعمال الحرة. والذين يشكلون الجزء الأكبر من الأحداث الموجودين في سوق العمل والذين لا وجود لعقود تحمي حقوقهم، ويتجاوز في كثير من الأعمال ساعات العمل لديها 8 ساعات إلى 12 ساعة، كالعاملين في (العتالة)، على الرغم من توقيع سورية لعديد من الاتفاقيات التي تحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال، والتي هدفت إلى مراقبة عملهم، ولكنها حتى الآن قيد التفعيل).

وأردفت تقول: (ويمكن القول إن قانون العمل وفق عقود مسجلة قد يحفظ جزءاً من قانون العاملين، لكن غياب قانون العمل والعمل في نطاق الأعمال الحرة يعطي فرصة لصاحب العمل لاستغلال حاجة العامل أو لاستغلال فرصة غياب عقد عمل يحدد حقوقه وواجباته (إجازات، إصابات العمل، ساعات العمل).

 

النفايات والبيئة

وعن أضرار النفايات على البيئة قال: (تؤثر النفايات سلباً على البيئة، فتلوث المياه والتربة والهواء نتيجة التخلص منها بشكل عشوائي، لعدم وعي المجتمع بالتعامل معها، ما يؤدي إلى تشويه المظهر الحضاري وانتشار الروائح الكريهة. وتؤمن هذه النفايات بيئة ملائمة لتكاثر الحشرات والقوارض التي تنقل الأمراض. فمثلاً تؤدي النفايات على الشواطئ إلى التشويه البصري وتقليل العائد الاقتصادي. ومن ناحية أخرى تأخذ النفايات البلاستيكية أكثر من مئة عام للتحلل في الطبيعة، إضافة إلى إمكان وصول جزيئات البلاستيك إلى البيئة البحرية، الأمر الذي يشكل أضراراً جمة على البيئة البحرية.  وقال: (لقد بات من الضروري إيجاد طرق لاستثمار المخلفات التي ينتجها الإنسان، وتبلغ 6,1 مليار طن في مختلف أنحاء العالم كل عام، وتحويلها إلى مصادر لطاقة نظيفة، واستغلال مقالب النفايات لتوليد الكهرباء والغاز، الأمر الذي يفيد في تحويل هذا المورد إلى قيمة مالية، مما يؤدي لتحسين الاقتصاد. ففي بريطانيا يمثل الغاز المستخرج من مواقع النفايات ربع الطاقة المتجددة المنتجة بالبلاد، ويولد كهرباء تكفي نحو 900 ألف منزل).

 

معاناة ومخاطر

وعن الأثر الصحي للنفايات على العاملين بجمعها قال الطبيب مؤنس طلب المختص بالأنف والأذن والحنجرة: (يعيش هؤلاء في ظروف تجعلهم معرضين للخطر نتيجة للمخاطر الصحية الكبيرة التي يواجهونها أثناء عملهم، فهم معرضون لأمراض عديدة كالكزاز (التيتانوس)، والالتهابات الخمجية، والتهاب الكبد الوبائي، والإيدز. إضافة إلى أنهم عرضة للجروح القطعية التي تسببها الأجسام الحادة كالزجاج المكسور والسكاكين وأغطية المعلبات)، وأكد أن الأطفال يتعرضون لهذه المخاطر بنسبة أكبر من البالغين، بسبب نقص المعرفة والخبرة وغياب الفطنة لتقدير المخاطر الكامنة في النفايات. يضاف إلى ذلك مخاطر إصابة الأطفال بالتسمم بسبب تناولهم أطعمة من الحاويات، فضلاً عن تعرضهم لمواد سامة من النفايات الصناعية، كالمركبات الفسفورية العضوية والمبيدات الحشرية والمواد الكيماوية الحارقة. وتابع قائلاً: (يؤدي حمل النفايات الثقيلة لمسافات طويلة لمشاكل في العضلات والعظام، فضلاً عن التعرض لمخاطر الأمراض المنقولة بواسطة الذباب والبعوض والفئران والحشرات والحيوانات الأخرى التي تشكل النفايات بيئة خصبة لتكاثرها).

وحول الأمراض التنفسية قال: (إنَّ الأطفال معرضون لمخاطر استنشاق المواد السامة أكثر من البالغين، لأن سرعة تنفسهم عالية، وأيضاً بسبب رقة الجلد لديهم، فهم معرضون للجروح والحروق ولامتصاص المواد السامة أكثر من البالغين).

 

النفايات اقتصاد منظم خارج حسابات الناتج القومي

يعمل في نبش النفايات آلاف المهمشين والهاربين من الضرائب والخارجين على القانون، إذ يعملون في ورش وأقبية تخلو في أغلبها من الحدود الدنيا من السلامة المهنية والشروط الصحية، ومنهم من يجوبون الطرقات يجمعون النفايات ويبحثون عما يمكن بيعه.

يندرج العمل في نبش النفايات تحت ما يسمى (اقتصاد الظل)،  وحول أثر اقتصاد الظل على الاقتصاد الوطني قالت الباحثة الاقتصادية الآنسة لينا ديب: (تشير الإحصائيات إلى أنَّ اقتصاد الظل يمثل بحدود 40 -50 % من حجم النشاط الاقتصادي السوري، وهذا يعني أنَّ 40-50% من حجم النشاط الاقتصادي هو خارج حسابات الناتج والدخل القومي، وخارج إطار الخطط الخمسية، والسياسات والبرامج التنموية، وبالتالي يُفقد هذه الخطط والسياسات الكثير من واقعيتها، وبالتالي القدرة على معالجة المشكلات المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية)، وتابعت تقول: (يلجأ العاملون إلى اقتصاد الظل نتيجة ضعف التعلم وانعدام ثقافة العمل المؤسساتي، إضافة إلى التعقيدات الإدارية الكثيرة وارتفاع تكاليفها في معظم الأحيان، ونجده في مناطق السكن العشوائي التي تعد أهم الأماكن لانتشار اقتصاد الظل وانتشار العمل في نبش القمامة أيضاً، والتي سهلت بشكل أو بآخر استمرار اقتصاد الظل بهذه الصورة غير المناسبة وغير المنظمة)، مضيفةً: (والترابط بين المحورين واضح، إذ يسهم العمل في نبش النفايات بحصة كبيرة من الاقتصاد غير الرسمي في سورية، مع عدم وجود مظلة تحكم عمل العاملين فيها فتحفظ حقوقهم وتحدد التزاماتهم.).

وعن أهمية تدوير النفايات كعنصر من عناصر الاقتصاد الوطني قالت الآنسة ديب: (إنَّ الترابط بين المحورين واضح إذ يعد تدوير النفايات مصدراً للدخل، وتشغيل العمالة، والتنويع الاقتصادي وخفض حدة الاعتماد على القطاعات الريعية، وتوسيع قاعدة الاقتصاد المحلي والبحث عن مصادر بديلة -غير تقليدية- للنمو الاقتصادي، ويتم ذلك من خلال:

إطلاق الطاقات الكامنة لمختلف محددات البيئة الاقتصادية.

تعزيز دور القطاع الخاص في عملية التنمية.

الاستعانة بتجارب وخبرات الدول والاقتصادات الناجحة وبما يتلاءم مع خصوصية سورية…إلخ).

وتابعت تقول: (من المتوقع أن تنعكس هذه  الخطوات بشكل وفر اقتصادي واجتماعي ناتج عن الحد من استنزاف الموارد الطبيعية وتعميق النشاط الصناعي وتوفير مصادر طاقة بديلة وخفض تكاليف الإنتاج، بما يعزز قوة الصناعة ويساهم في تعزيز الجهود الحكومية الرامية إلى تطوير هذا القطاع وحماية البيئة على حد سواء).

وعن أثر عمالة الأطفال والنساء بالنفايات على الاقتصاد فقد بات العمل فيها مرتبطاً بدفع مبلغ يومي للسماح لهم بالدخول إلى مكب النفايات ونبش القمامة داخله بغض النظر على العمر أو الجنس. وحول ذلك قالت الباحثة ديب: (العمل بالنفايات هو كارثة صحية واجتماعية، بغض النظر عن العاملين بها، وخاصةً في ظل الاستغلال الفاضح لهؤلاء العاملين من خلال فرض رسم يومي على دخول مكبات النفايات، وتتعمق هذه الآثار أكثر وأكثر عندما نعلم أن عمالة الأطفال في هذا القطاع هي الغالبة، وهي مخالفة لكل مواثيق الطفولة وحمايتها. والكلمة الأخيرة أنه إذا كان الهدف من العمل في النفايات هو البحث عن أي شيء يباع، أو تدوير هذه النفايات، فالأجدر أن نتجه مجتمعاً وحكومة إلى تنظيم هذا العمل لما له من آثار إيجابية متعددة. أما إن كنا سنحافظ على الوضع الراهن فيجب الذهاب بالاتجاه المعاكس تماماً، والعمل على إيقاف هذه الظاهرة ونشر التوعية لسلبياتها ومنع ممارسيها من التمادي).

 

هل من حل؟

أخيراً نحن من هنا لا نطالب بإلغاء مصدر الرزق، إنما نطالب بتحويل مصدر الرزق هذا إلى مشروع كبير يستفيد منه عدد أكبر وبظل القانون، وحماية الأطفال على وجه الخصوص والرقابة الصحيّة ورعاية المؤسسات المعنية بالطفولة والصحة للأطفال والمجتمعات الفقيرة التي تضطر للعمل في ظروف غير آمنة وغير صحية.

العدد 1105 - 01/5/2024