اغتيال القائد اليساري شكري بلعيد.. ومستقبل تونس وثورتها

ينظر إلى تونس باهتمام، بوصفها مهد ثورات (الربيع العربي) من جهة، وبسبب من خصوصية الحالة التونسية و(الديمقراطية الليبرالية) التي مارسها النظام السابق وإفرازاتها الحزبية والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى. ورغم الملاحظات حول نجاح حركة التغيير في تونس خلال أسابيع قليلة، و(حياد) المؤسسة العسكرية ووزير الدفاع، في بلد انسجم نظامه السابق ومؤسساته المختلفة، وبضمنها العسكرية، وصولاً إلى التنسيق مع التوجهات والسياسات الأمريكية، فإن عراقة الحركة الشعبية- الحزبية السياسية التونسية، فرضت نفسها بحدود ما قبل التغيير، وبشكل واسع بعده. وتعكس نفسها بوضوح على التطورات والمتغيرات الجارية حالياً في تونس، الذي شكل اغتيال القائد اليساري المعارض شكري بلعيد مؤخراً انعطافة هامة فيها.

وعلى الرغم من تواضع تأثير تونس في محيطها، ودول الجوار، وعدم امتلاكها ثروات طبيعية هامة، أسوة بجيرانها، فقد تميزت عن جوارها، وعن العالم العربي عموماً، بتطورها الاجتماعي وأنظمتها وقوانينها، وبالحريات النسبية التي حازت عليها الحركة الحزبية – السياسية التونسية.. كذلك اتساع تشكيلة أحزابها الوطنية من حركة النهضة الإخوانية والأحزاب اليمينية، إلى الاتجاهات اليسارية والديمقراطية والعلمانية، في حدود (توافق) عليها، لاعتبارات عديدة، النظام السابق والأحزاب التونسية على اختلاف توجهاتها.

ولذلك شكلت الحالة الاقتصادية، وما أنتجته من فوارق طبقية- اجتماعية أزمة اقتصادية- اجتماعية داخلية، فضلاً عن الإحباط والرفض الشعبي- الحزبي لطبيعة العلاقات التونسية الخارجية، وبخاصة التوافق مع التوجهات الأمريكية والغربية في التعاطي مع قضايا المنطقة، أحد العوامل الرئيسية في ثورة تونس قبل عامين. وخلافاً لدول (ثورات الربيع العربي) الأخرى، فإن تونس حافظت على خصوصيتها، كما في ماهية الثورة، كذلك ما بعدها، إذ لم تمسك المؤسسة العسكرية بمقاليد السلطة (مؤقتاً)- كما جرى في مصر مثلاً- وعجلت حركة التغيير بقواها وتياراتها المختلفة في الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أفرزت برلماناً بخصوصياته وقواه، من حركة النهضة إلى الشيوعيين والليبراليين وما بينهم. وساهم في طبيعة تركيبته وحصص أحزابه التدخل والدعم المادي والإعلامي الخارجي، وخاصة لحركة النهضة وللقوى والرموز الإسلاموية أو المتشددة. وأنتج هذا البرلمان حكومة ائتلافية ثلاثية بقيادة حركة النهضة (ورئيس وزرائها حمادي الجبالي، أمين عام الحركة)، وتقاسمها مع حزبي المؤتمر (انتخب زعيمه منصف المرزوقي رئيساً للبلاد)، وحزب التكتل الذي حاز على منصب رئاسة البرلمان، فيما قاطعت القوى البرلمانية الأخرى المشاركة في هذه الحكومة.

ورغم السرعة في إنجاز الانتخابات وتشكيل الحكومة التونسية، واستمرار (حياد) المؤسسة العسكرية، فإن تواصل الاحتجاجات الشعبية- الحزبية ضد سياسات الحكومة الراهنة الاقتصادية- الاجتماعية وأخونة الدولة التونسية وانعكاساتها على المجتمع التونسي الأكثر تطوراً على الصعيد الاجتماعي، مقارنة بغيره من الدول العربية، والحفاظ على طبيعة علاقات تونس السابقة الإقليمية والدولية، وتعزيز علاقات تونس الحكومية مع قوى (المتغيرات) الجارية في البلدان العربية، ودعم حركة النهضة خصوصاً، العلني للحركات الأصولية المتطرفة في الدول التي تعاني أزمات داخلية وبخاصة سورية.

وأدت سياسات الحكومة وتوجهات حركة النهضة والأخونة وتعزيز دور الحركات الأصولية إلى اتساع التباينات الاجتماعية- السياسية، واستمرار الاحتجاجات والتظاهرات ضد محاولات الأخونة وسرقة الثورة التونسية، والمطالبة بإسقاط الحكومة الثلاثية، وإجراء انتخابات مبكرة، وغيرها من المطالب الشعبية، وبخاصة من قبل قوى الديمقراطية والتقدم والحداثة.

إضافة إلى ذلك الملاحظات السلبية العديدة على توجهات الحكومة الحالية، فقد أحدث اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد، احد قادة الجبهة الشعبية وزعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين، على أهميته، بوصفه الاغتيال السياسي الأول في تاريخ تونس المعاصر، تغييراً نوعياً في التطورات التونسية المستمرة منذ سنتين، وعنوانها الأبرز التناقض وصولاً إلى الاحتراب بين القوى الأصولية المتطرفة، وبين القوى الليبرالية والديمقراطية. إذ حذر بلعيد نفسه من دخول تونس نفق الاغتيالات والحسم العنفي الهادف إلى تكريس سيطرة القوى الأصولية والتكفيرية علة مؤسسات الدولة، وتالياً المجتمع التونسي عموماً، وإلغاء العديد من الإنجازات والامتيازات الاجتماعية التي حققتها تونس سابقاً.

نشير هنا إلى اتهام القوى الأصولية بلعيد بالإلحاد والكفر، وعزمها نبش قبره وإزاحته من مقابر (المسلمين)، و(اضطرار قوى الأمن إلى تهدئة الأوضاع من جهة، وتطويق التصريحات والتحركات الأصولية والتكفيرية من جهة أخرى.

وخلافاً لدول (الربيع العربي) الأخرى، فإن القوى الديمقراطية والليبرالية حصلت عملياً على غالبية مقاعد البرلمان، وانحاز بعضها (حزبَيْ المؤتمر والتكتل) إلى الائتلاف مع حركة النهضة وتشكيل الحكومة الثلاثية بزعامتها، فإن استمرار حركة الشارع والاحتجاجات الجماهيرية، تؤشر مرة أخرى إلى طبيعة الحالة التونسية وخصوصيتها وآفاقها المستقبلة القريبة، المفتوحة على كل الاحتمالات، وبضمنها حركة الاغتيالات والحسم العسكري العملي ضد القوى المناهضة لحركة النهضة والأخونة، وانعكاسات ذلك كله على التوجهات الداخلية التونسية وعلى سياسات تونس العربية والإقليمية والدولية أيضاً.

لقد خسرت تونس بلعيد أحد أبرز قياديها الوطنيين واليساريين، وهناك تخوف من استمرار نهج العنف الإسلاموي والتكفيري أيضاً، والذي سيعزز الاحتجاجات الشعبية- الحزبية الجارية، التي تطالب بحكومة (توافق) وطني واسعة، ووقف سياسة الأخونة وتوجهات الحركة الأصولية والتكفيرية، وتصحيح العلاقات الخارجية التونسية، انسجاماً مع أهداف الثورة.. هذه الأحداث والاغتيال أدخلت رئيس الحكومة النهضوي (الجبالي) في مفارقة، ما بين تأييد قوى المعارضة لطرحه تشكيل حكومة تكنوقراط، أو حكومة توافق موسعة، وبين رفض حركته (النهضة) هذا الطرح وتبعاته.

تدخل تونس مرحلة جديدة عنوانها الرئيس (تونس إلى أين)؟ ما بعد ثورتها قبل عامين، واستمرار التفاعلات الشعبية- الحزبية المطالبة بالديمقراطية الحقيقية، وتصحيح مسار الثورة، لما فيه مصلحة الغالبية الفعلية الحزبية – الشعبية، والحفاظ على الإنجازات التي حققتها في ظل النظام السابق وتطويرها.

لقد أثار اغتيال بلعيد، الحقوقي والقيادي في الجبهة الشعبية، والأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين، موجة غضب عارمة شعبياً وسياسياً داخل تونس وخارجها. فقد اتحد التونسيون في تشييعه، وأدانت الاغتيال أوساط سياسية وحقوقية ودولية، وكشفت فتاوى الاغتيال السياسي في تونس ومصر للمعارضين العلمانيين عن وجه فاشية تكفيرية مستبدة تخنق الحريات وترفض تداول السلطة.

أيام وأسابيع حاسمة ستشهدها تونس بعيد اغتيال بلعيد عنوانها الأبرز طبيعة وكيفية (التفاهم) بين القوى التونسية على اختلافها وتنوعها حول ماهية سياسة تونس الداخلية والخارجية أيضاً.. أو استمرار التباينات والتناقضات بين قوى الحداثة والتقدم والقوى الأصولية الإسلاموية، ودور حركة الشارع وموازين قواه في تحديد مستقبل تونس الجديد.

العدد 1105 - 01/5/2024