القمة الروسية الفرنسية وتصدّر الملفات الساخنة

أظهرت القمة الروسية – الفرنسية التي عقدت بموسكو في نهاية الشهر الماضي (27 شباط)، تشديد الطرفين على العلاقات الثنائية وضرورة تعزيزها، كذلك نقاط التباين والخلاف حول الأزمة السورية (الداخلية) من جهة، والتوافق على ضرورة الحل السياسي لها من جهة ثانية. وينظر إلى هذه القمة باهتمام لأنها جمعت رئيسَيْ بلدين تتباين مواقفهما وكيفية تعاطيهما مع الحلول المقترحة لهذه الأزمة، وأنها تستبق لقاءات دولية هامة (قمة الدول الثماني الكبرى في حزيران، القمة الروسية -الأمريكية في أيلول)، وتالياً محاولات التوصل إلى مواقف مشتركة حول مسائل الخلاف بينهما.

ضم وفد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وزراء الخارجية لوران فابيوس، والداخلية ماينول فالس، والإنعاش الإنتاجي أرنو مونيتور، والثقافة أوريلي فيلييتي، ورؤساء 15 شركة فرنسية، في تأكيد لرغبة فرنسية في مناقشة مختلف أوجه التعاون الروسي – الفرنسي. كذلك في إقرار فرنسي، مرة أخرى، بأهمية العلاقة الثنائية التاريخية، التي شهدت ولاتزال العديد من القضايا (التوافقية) و(الخلافية) أيضاً.

إذ أكد هولاند ذلك في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس فلاديمير بوتين قائلاً: (قد تكون لدينا ملاحظات حول مسائل حقوق الإنسان، أو مبادئ الديمقراطية، لكن لدينا في المقابل تعاون جيد جداً ثقافياً وعلمياً، ومستوى رفيع من التبادلات بين البلدين). وأضاف: (لدينا تمايز في المواقف، لكن التعبير عنها يشكل جزءاً من نوعية العلاقة الفرنسية – الروسية، وعلينا تسويتها، نظراً للحاجة إلى روسيا للتوصل إلى حل سياسي منتظر منذ فترة طويلة في سورية)، مؤكداً أن موقف الرئيس الروسي بوتين يبقى مهماً في قدرته على فرض تقارب بين روسيا والغرب.

وفي الوقت الذي تفادى فيه بوتين التطرق علناً للخلاف الروسي – الفرنسي حول مصير النظام السوري، أكد أن فرنسا تبقى شريكاً مميزاً لروسيا، وأن العلاقات الثنائية (جيدة) والحوار السياسي كذلك. وأضاف: (علينا الاستماع إلى رأي زملائنا الفرنسيين بشأن بعض جوانب هذه المشكلة المعقدة)، لافتاً إلى أن هولاند قدم مقترحات جديدة يمكن مناقشتها والعمل على وضعها قيد التنفيذ.

فقد شهدت العلاقات الروسية – الفرنسية فتوراً في كيفية التعاطي مع العديد من الإشكاليات المناطقية والدولية، خلال رئاسة نيكولا ساركوزي (يمين الوسط)، وبخاصة تصدّر فرنسا غيرها من دول حلف الناتو، في خرق القرارات الدولية الخاصة بليبيا، وتالياً غزوها مع بريطانيا بمساعدة بعض الدول العربية. كذلك في كيفية تعاطي الرئيس هولاند (يسار الوسط) مع أزمة مالي، والتدخل الفرنسي المنفرد بقرار دولي من مجلس الأمن في هذا البلد، بحجة محاربة الأصوليين والجهاديين فيها شكلياً، والحفاظ عملياً على المصالح الفرنسية في مستعمراتها الإفريقية السابقة، أعضاء رابطة الدول الفرانكوفونية، راهناً، ودعم فرنسا العملي والرسمي المعلن لقوى المعارضة الخارجية السورية، وبضمنها المجموعات المسلحة المتطرفة التي صنّفت الإدارة الأمريكية عدداً منها في قائمة المنظمات الإرهابية.. كذلك تصريحات العديد من المسؤولين الغربيين، وبضمنهم الفرنسيين أيضاً، حول حظر تنامي الأصولية والتطرف في المنطقة.

وتبرز المفارقة في هذين الموقفين المتباينين والمتناقضين في التعاطي مع هذه الحركات، ولاسيما أن فرنسا نفسها تعاني أكثر من غيرها من الدول الغربية، من تصاعد اليمين المتطرف الفرنسي، ومن الامتدادات الأصولية على أراضيها أيضاً.

وتسعى روسيا لحل الأزمات الوطنية في البلدان المستقلة بالحوار بين أطرافها الرسمية والمعارضة، وترفض التدخل الخارجي في شؤون البلدان ذات السيادة، انسجاماً وقوانين الأمم المتحدة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

ورغم التباينات الواسعة في مواقف البلدين حول كيفية حل الإشكاليات المناطقية والوطنية للدول الأخرى، وبخاصة المتغيرات في المنطقة العربية بعيد (ثورات الربيع العربي)، وتصدر الأصوليين والجهاديين السلطة في عدد من بلدانها، فإن الحذر الروسي- الفرنسي المشترك من نمو هذه الظاهرة المتطرفة قد طرح نفسه بقوة على قمة موسكو.

إذ تأتي هذه القمة في ظل تحول، ولو نظري، غربي حول ضرورة الحوار والحل السياسي لهذه الإشكاليات، نقيضاً للمواقف الغربية- الأمريكية السابقة المتشددة والمنحازة، التي حاولت فرض حلول خارجية، وصولاً إلى التلويح بالتدخل الخارجي، الذي فشلت في تحقيقه، وباتت تقرر راهناً، عبر مواقف العديد من بلدانها ومسؤوليها، ضرورة التوصل إلى حلول سياسية (بعيداً) عن تهديداتها وسياساتها في التعاطي مع هذه الإشكاليات، وفي الصدارة منها الأزمة السورية المستمرة منذ عامين.

فقد أشار هولاند عقب قمته مع بوتين إلى (تحقيق تقدم بشأن الملف السوري، إذ التقى الطرفان على الهدف ذاته، بما يشمل عدم تفكك هذا البلد، وعدم ترك الإرهابيين يستفيدون من حالة الفوضى هذه).

وعلى الرغم من استمرار التباين بين البلدين حول كيفية الحل السياسي وآلياته وعناصره في سورية، وبخاصة الإصرار الروسي الرسمي والمعلن على عدم جواز التدخل الخارجي، وبضمنه الضغط السياسي الغربي، فإن طرفي القمة سعياً لإظهار الاتفاق على وجود (تقدم ملحوظ) و(حوار جيد) بينهما بشأن الملف السوري.. كذلك على اتفاق فضفاض على هدف موحد عنوانه (التسوية السياسية) في ظل السعي للحل السلمي بمساعدة روسيا، والذي بات يحظى بإجماع غربي أيضاً.

وهذا ما لحظته المواقف الأمريكية والغربية في الأسابيع الماضية، وبخاصة لقاء وزيرَيْ الخارجية الروسي سيرجي لافروف والأمريكي جون كيري في برلين مؤخراً، كذلك التصريحات العديدة لكيري ولغيره من المسؤولين الغربيين حول ضرورات التسوية السياسية.

فرنسا التي عانت كما غيرها من الدول الغربية، من تعقيدات الأزمة السورية، وكيفية الوصول إلى حل لها، تسعى أيضاً إلى إيجاد قواسم مشترك مع الموقف الروسي وما يمثله دولياً، حول سبل حل هذه الأزمة وتفادي انعكاساتها إقليمياً ودولياً. وهذا ما كرره مراراً هولاند في المؤتمر الصحفي مع الرئيس بوتين، الذي تتخذ بلاده موقفاً مبدئياً، حول كيفية التعامل مع المشاكل الوطنية والإقليمية، وأشار إليه صراحة وزير الخارجية لافروف في انتقاده لمؤتمر روما الأخير ل(أصدقاء سورية) (وحضرته 11 دولة فقط، مقارنة بالمؤتمرات السابقة). إذ أكد أن الازدواجية في المواقف الغربية لاتزال قائمة، وتفيد المتشددين، وأن على الآخرين أن يلتزموا موقفاً رسمياً وعملياً واحداً في التعاطي مع الإشكاليات التي نعالجها، وتالياً كيفية حلها.

لقد توصلت القمة الروسية – الفرنسية إلى اتفاق (فضفاض) حول الأزمة السورية وغيرها، إلا أن طرفيها أقرّا بضرورة التسوية السياسية التي تعني عملياً الحوار والحل السياسي، نقيضاً لسياسة التدخل الخارجي والحصار والعقوبات. وهذا ما يمثل برأينا إقراراً واضحاً، ولو كان نظرياً وأولياً راهناً، بفشل السياسات الغربية السابقة، المترافق مع محاولات حفظ ماء الوجه، وبخاصة قضية التغيير الإرادوي الخارجي اللاديمقراطي واللاشعبي، وهذا هو الأهم والجوهري أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024