من الصحافة العربية العدد 569

أبو العلاء المعري والتمثال المغتال

 شهدت سورية سنة 1944 مهرجاناً شعرياً رائعاً، أحياه حشد من الشعراء العرب الكبار، في صدارتهم محمد مهدي الجواهري. وقد أقيم ذلك المهرجان في أجواء انقضاء ما يقرب من ألف سنة على غياب الشاعر العبقري أبي العلاء المعري. وكان عميد الأدب العربي طه حسين في صدارة الحاضرين، وقد تبرع وقتئذ بخمسة آلاف جنيه لإتمام بناء قبر المعري، وفقاً لما رواه الجواهري في كتابه الضخم- ذكرياتي. ولم يكن الشعراء والأدباء هم وحدهم الذين احتشدوا في سورية في ذلك المهرجان، إذ أزيح الستار عن تمثال بديع متخيل لأبي العلاء المعري في مدينة معرة النعمان التي ولد وعاش المعري فيها طيلة حياته دون أن يغادرها إلا مرة واحدة، توجه فيها إلى بغداد. أما التمثال فهو من إبداع النحات السوري فتحي محمد قباوة.

ألقى الجواهري قصيدة عصماء، تجاوزت مئة بيت، وهي من روائع شعره. وكان طه حسين يجلس إلى جواره مباشرة على منصة الاحتفال، منتشياً بسحر أبيات تلك القصيدة التي استهلها الجواهري قائلاً:

قفْ بالمعرّةِ  وامسحْ  خدَّها التربَا

واستوحِ مَنْ طوّقَ الدنيا بما  وهبا

واستوحِ  مَن  طيَّبَ  الدنيا بحكمته

ومَن على جرحِها مِن روحه سكبَا

هذا ما كان سنة ،1944 وهي إحدى سنوات ازدهار الثقافة العربية بكل ما تضمه وتحتضنه في فنون الشعر والأدب والفلسفة والفن التشكيلي. وقد ظل هذا الازدهار موصولاً وفعّالاً حتى عقد الستينيات من القرن العشرين الغارب. وبعد هذا العقد أخذ الانحدار يتوالى ويتسيّد الساحة الثقافية العربية، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. ومن الدوحة جاءني صوت الصديق الغالي ناصر محمد العثمان- عميد الصحافة القطرية، وأحسستُ من نبرات صوته الأسيانة أن هناك ما يحزنه، ولم يكن إحساسي خائباً، إذ قال لي: أتعرف ما جرى لتمثال أبي العلاء المعري- الشاعر العبقري الذي تفخر بأنك تحفظ الكثير من روائعه؟ وعلى الفور قلت له: إن المتشنجين بينهم وبين الثقافة والإبداع عداوة، لأن التشنج ضد الثقافة على طول الخط، وهذا ما يتأكد في أجواء هذا الزمن المنحط!

في سورية سنة 2013 قام المتشنجون بقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، وهو التمثال الذي صممه – كما ذكرت- الفنان السوري فتحي محمد قباوة. أما لماذا؟ فهذا راجع – في العقلية المتبلدة المحنطة والمنحطة- إلى أن المعري شاعر حائر، ولم يكن مستقراً على يقين. وعلى كل حال فإن ما جرى للتمثال المغتال في مدينة معرة النعمان السورية، هو نفسه ما تعرض له تمثال طه حسين في مدينة المنيا المصرية، وفي الحالتين قيل: إن مجهولين هم الذين ارتكبوا ما ارتكبوه. لكن هناك آخرين ليسوا مجهولين، وإنما هم معروفون قاموا بالعبث ببعض المقتنيات الموجودة في ضريح الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر في حدائق القبة بالقاهرة، وكان متشنجون آخرون قد قاموا بإسقاط تمثال عبد الناصر في مدينة طرابلس الليبية!

لم يبق إلا أن أقول لعميد الصحافة القطرية ناصر محمد العثمان ولسواه من الحزانى: لا تحزنوا، فالحضارة الإنسانية بكل ما تضمه وتحتضنه وتحتويه ليست قابلة للضياع، حتى لو احتشد لتدميرها كل المتشنجين الذين في قلوبهم مرض، وعلى عيونهم وعقولهم غشاوة مشبعة بالعطن وبالعفن، فلو أن هؤلاء حطموا التماثيل الرائعة لرموز الفكر والثقافة والوطنية، فإنهم مهما فعلوا وارتكبوا فلن يستطيعوا أن يقضوا على بيت واحد من أبيات سقط الزند ولزوم ما لا يلزم للمعري، ولن يستطيعوا أن يحذفوا سطراً واحداً من أيام طه حسين أو من تراثه الفكري والأدبي الرفيع والبديع، ولن يستطيعوا أن يدمروا السد العالي الذي بناه أبناء مصر في ملحمة النضال الوطني العربي بزعامة عبد الناصر.

إن عقلية التشنج عقلية واحدة في كل مكان وزمان، فما يرتكبه المتشنجون الآن على امتداد الأرض العربية، هو امتداد لما ارتكبه المتشنجون في أوربا- العصور الوسطى وما بعدها، حيث كانت حملات التفتيش عما في ضمائر وقلوب العرب والمسلمين في عنفوان سطوتها وشدتها بعد سقوط الأندلس في إسبانيا. وفيما بعد عاد العقل لأوربا، وارتفعت شعارات الحرية والعدالة والمساواة، وهو ما يسعى العقلاء والثوار العرب لأن يتحقق مهما تكن التضحيات موجعة ومريرة، ومهما تكن التكاليف باهظة وكبيرة.

حسن توفيق

(الحوار المتمدن)، 22/2/2013

 

الجسد والثورة (بين شارب الرجل وصدر المرأة)

سقوط (الآلهة العارية) وتغطية جغرافية جسدها بسقوط حضارة سومر جعل من غطائها مقدساً، أشبه بكسوة محيطة بالحجر الأسود، إزاحة الكسوة عن جسدها تشويه لكاريزما الأنوثة، بل وانتقاصاً من شرفها من وجهة نظر من أسقط الآلهة السومرية من مكانتها الحقيقية، والكشف عن جغرافية جسدها ثورة، أو رغبة طبيعية ناتجة عن كبت تاريخي يظهر بين الحين والحين هنا أو هناك، للعودة إلى عصر الآلهة العارية، كما فسر أرسطو العشق بأنه رغبة النصفين بعد فصلهما بالالتصاق والتوحد كرغبة للعودة إلى ما كان، وإنهاء ثنائية الجسد.

جسد المرأة التي سجلت أولى الانتهاكات في تاريخ الرجال، وستحفظ آخر صولاتهم و جولاتهم في حضارة ذكورتهم أصبح مركزاً محورياً في الحروب والثورات الطبقية المُغلّفةِ بعضها بعباءة الدين أو وهم الأقوام.

جسد الأنثى عبوة ناسفة تستخدم من خلال الكشف عن تضاريسها لكشف زيف الوعي الجمعي وازدواجيته، وقد تكون رسالة تقرأ لاحقاً، كما فعلت المصرية علياء مهدي أثناء ما أشيع من خطأ التعريف بـ( الربيع العربي)، (الجسد – الديناميت) قد تنفجر على من يضع العبوة، كما حدث مع ثانية مشهد التعري لعلياء المهدي في ستوكهولم .

لم تستخدم القوى الثورية موضوع (جسد المرأة) وجرائم انتهاكها وإزالة عذريتها من قبل أجهزة القمع. موقف القوى الثورية، أقل ما يمكن وصفه بأنه تناسق وتناغم مع عقلية سائدة وبنى فوقية في المجتمعات الشرقية، التي بدأت تتقبل رويداً رويداً جسد المرأة لا فقط في الأفلام المهربة والمجلات الجنسية، بل وفي كشف إسقاط ثقافة (التابو) التي فرضت على المرأة اغتصاب صوتها بعد إزالة بكارتها.

نظام مبارك الذي أكد ذكورية القمع من خلال عملية سحل جنود جيشه للمنقّبة (ست البنات) وتعريتها أمام مجلس الوزراء، وضرب مبرح تعرضت له عزة هلال، أكد من جهة أخرى شجاعة المرأة المصرية وفعلها الثوري من خلال مقاضاة العسكر بجسدها المنتهك، كما فعلت سميرة إبراهيم مع عدد آخر من الفتيات في مقاضاة المؤسسة العسكرية في قضية كشف العذرية.

إن إخفاء جرم الاغتصاب خوفاً من الفضيحة هي إشكالية بنيوية، لا في فكر الأنظمة العربية القمعية فقط، بل وفي فكر المجتمعات التي ترعرعت في ظلها، إشكالية لم تتحرر منها حتى الأحزاب الثورية التي لم تتناول الموضوع بجرأة على خلاف جرأة بعض الفتيات اللواتي كشفن عن أجسادهن وتحدثن عن غشاء بكارتهن بكل وضوح.

فيما يتعلق بالوضع السوري وبعد سلسلة جرائم (طالبان سورية) التي تؤسس لها (جبهة النصرة) فكراً، وجريمة، ونظاماً، فإن الحالة السورية، وبالأخص فيما يتعلق بوضع السوريات، مرشحة لأن تتكرر في الجانب الهزلي لتكرار التاريخ المتخلف لقندهار أفغانستان. إن صمت المعارضة السورية عن جرائم ( جبهة النصرة) المتهمة أمريكياً بالإرهاب، بل ودفاع الائتلاف الوطني السوري عن تلك الجبهة التي بدأت تفرض نظام طالبان على المدن التي تحتلها، سيجعل من جسد المرأة السورية محوراً لمعركة مقبلة. فتعريتها واغتصابها وجه من عملة أنتجتها حضارة الذكورة بأبجدية فائض قيمتها، وجهها الآخر هو تعتيمها ببدعة الحجاب ومهزلة النقاب.

المرأة السورية في خطر، لا لأنها تواجه إرهاب فتاوى الشواذ حينما أباحوا لرجال أنجبتهم حاضنة موروثة وملوثة بتعدد الزوجات وما ملكت الأيمان، وزادوا على السلف بنكاح الجهاد. فهل يفوز من يقتل بحواري الفردوس المفترض وهو يقاتل من أجل جارة في وطن محتل؟ المرأة السورية في خطر لأن معارضاتها التي تدعي الديمقراطية تتعامل بازدواجية مع جسد المرأة السورية ، فهي تدين اغتصابها من قبل السلطة، وتقف تستمع وراء الباب لصرخات بكارتها، ولم يشهروا حتى السيوف كما فعل السفلة على حد تعبير شاعر الرفض العراقي مظفر النواب.

هيفاء حسن

(الحوار المتمدن)، 22/2/2013

 

الضمير والسياسة الديمقراطية والانتخابات

بعيداً عن مسميات الجبهات وتوصيف المواقف، للضمير دور حقيقي في السياسة إن هي توجّهت، في إطار ديمقراطي، للصالح العام، وفي اختيارات ممارسي السياسة إن هم تجاوزوا مجرد البحث عن المناصب والرغبة في البقاء بها.

يُلزم الضمير قوى الأغلبية بصون حقوق الأقلية، وبالبحث عن توافق وطني يُترجم الصالح العام إلى اختيارات وقرارات، وبالابتعاد عن وضع قواعد غير عادلة للعملية السياسية، سواء كانت دستورية أم قانونية أو في الممارسة العملية. يُلزم الضمير قوى الأقلية بالمشاركة في السياسة سعياً لتطوير قواعد عادلة وتحقيق الصالح العام، وباحترام نتائج صندوق الانتخابات حال توفر شروط وضمانات نزاهته. وبالعمل السلمي لتغيير القواعد غير العادلة للسياسة، وهو ما قد يرتبط على نحو مؤقت بالعمل خارج السياسة الرسمية بانتخاباتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية.

يُلزم الضمير ممارسي السياسة بتغليب الصالح العام ومصالح القطاعات الشعبية التي يمثلونها (أو يسعون لتمثيلها) على رغباتهم الشخصية والنزوع المدفوع بالمصلحة الفردية نحو المنصب والاستمرار به أو المكانة والحفاظ عليها أو بناء شبكات النفوذ وتطويرها. يُلزمهم الضمير أيضاً بإخبار الرأي العام باختياراتهم وقراراتهم، ومصارحته بدوافعهم وتقديراتهم الشارحة لها، ودونما أدنى ادعاء بأن الاختيارات والقرارات المعنية هي الوحيدة الصائبة أخلاقياً أو سياسياً أو مجتمعياً. فلا حقيقة مطلقة بالسياسة، ولا صواب كاملاً أو خطيئة كاملة، بل دوماً اختيارات وقرارات تحتمل تقييمات متنوعة، وتنظر إليها القطاعات الشعبية على نحو متنوع وفقاً لمواقعها المجتمعية ومصالحها.

يُلزم الضمير ممارسي السياسة بالنقد الذاتي، وتغيير النهج والمسار جزئياً أو كلياً حين يرون أن سعيهم من أجل الصالح العام وتمثيل القطاعات الشعبية يبتعد عن الفاعلية والنتائج الإيجابية. وأحياناً، وبالتحديد في الدول والمجتمعات التي تتصف قواعد عمليتها السياسية بعدم العدالة، أو التي تمر بمراحل تحوُّل شاقة، يدفع النقد الذاتي إلى تغيير النهج والمسار بشأن قضايا السياسة المركزية، كالمشاركة في الانتخابات والسعي نحو الوجود في البرلمان، أو مقاطعة الانتخابات والبرلمان ومحاولة تغيير القواعد غير العادلة من خارج مساحة السياسة الرسمية (الأخيرة معرفة بمجمل المؤسسات والتفاعلات المرتبطة بالانتخابات والبرلمان والحكومة والأحزاب السياسية). هذه المعاني والمضامين التي يُلزمنا بها الضمير على المستويين الجماعي (قوى الأغلبية والأقلية) والفردي (ممارسي السياسة والعمل العام)، وكذلك الكيفية التي ينبغي أن توجّه بها الاختيارات والقرارات الساعية لتحقيق الصالح العام، تشكل معاً البيئة التي ستحدد بها القوى المختلفة وممارسو السياسة موقفهم من الانتخابات البرلمانية القادمة.

عن نفسي، أرى قواعد العملية السياسية الدستورية والقانونية غير عادلة، والتوافق الوطني غائب، وقوى الأغلبية تسعى في الممارسة العملية للانفراد والاستئثار عبر آليات وأدوات عدة، من بينها العصف بحيادية أجهزة الدولة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والقيود على الحريات تتكرر. وكذلك الإفلات من المساءلة والمحاسبة والعقاب. والانتخابات البرلمانية، وعلى الأهمية العامة للمشاركة بها والوجود بالبرلمان والتأثير من ثم على التشريعات وتعديلات القوانين وتشكيل الحكومة وأعمال السلطة التنفيذية والرقابة عليها، لن تترجم إلا القواعد غير العادلة للسياسة، وتستمر في إقرارها (كما يفعل حالياً مجلس الشورى). ولن تُمكّن قوى الأقلية من تغييرها أو تعديلها. أحسب، وفقاً لهذه الحقائق والمعطيات ودون ادعاء احتكار الصواب الكامل، ومع إعمال الضمير، أن الاختيار والتقدير الأفضل يدفع قوى الأقلية إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية والعمل لفترة خارج مساحة السياسة الرسمية.

عمرو حمزاوي

عن (الحياة) 17/2/2013

العدد 1104 - 24/4/2024