رحل تشافيز جسداً لكن بصماته التاريخية باقية

غيّب الموت رئيس فنزويلا البوليفارية هوغو تشافيز فرياس، أحد أبرز القادة الوطنيين والأمميين المدافعين عن الاستقلال الجذري لبلادهم، والمناصرين لحقوق الشعوب في التحرر والاستقلال الاقتصادي – السياسي الناجز.

وقد شيع الشعب الفنزويلي زعيمه التاريخي يوم الثامن من شهر آذار الجاري، وسط مراسم شعبية وحزبية ورسمية فنزويلية وقارية وعالمية، وبحضور 33 رئيس دولة وحكومة شاركوا في مراسم تشييع فقيد فنزويلا والقارة الأمريكية والعالم، فضلاً عن الوفود الأجنبية الأخرى، بوصفه أحد أهم قادة العصر، والمدافع العنيد عن مصالح بلاده وتحالفاتها الوطنية والقارية والدولية.

تشافيز (58 عاماً) الذي وصل إلى السلطة، في نهاية القرن الماضي، عبر انقلاب عسكري، وحوكم وسجن إثر ذلك، كمظلي وقائد كتيبة مدرعات، فاز بعدها بالانتخاب الشعبي الديمقراطي الشفاف رئيساً لبلاده، لولايتين رئاسيتين متتاليتين، حدد خلالهما نهج بلاده الوطني الاقتصادي – الاجتماعي، وتالياً السياسي، وكذلك تحالفاتها وعلاقاتها القارية والدولية، إذ كافح وناضل خلال سنوات رئاسته من أجل الاستقلال الاقتصادي- السياسي الناجز لبلاده وتطورها وتحقيق العدالة الاجتماعية، واستفادة الشعب الفنزويلي من ثوراته الوطنية، وبخاصة مصادر الطاقة (النفط وغيره). كما نسج علاقات كفاحية مع شعوب ودول القارة، وفي مقدمتها كوبا التي ساهمت بدرجة كبيرة في إنجاز أهدافه وبرامجه الاستقلالية، كذلك في إقامة روابط اقتصادية- سياسية مع دول القارة، أبرزها إقامة منظمة دول أمريكا الجنوبية واللاتينية، والمساهمة إلى درجة حاسمة في تعزيز علاقات أمريكا الجنوبية واللاتينية مع الدول النامية، الساعية إلى صون استقلالها وتحررها الاقتصادي- السياسي وبضمنها الدول العربية.

مثّل تشافيز في برامجه وتطلعاته السياسية الوطنية والدولية عنصراً (مشاغباً) ومناهضاً جدياً لتوجهات الولايات المتحدة الأمريكية، وساهم بقوة وتأثير كبير في التحول الديمقراطي- التقدمي للكثير من بلدان القارة الأمريكية التي صنفت حتى وقت قريب بوصفها (جمهوريات الموز) و(الحديقة الخلفية) لواشنطن.

وعمل خلال رئاسته لفنزويلا على إقامة الأداة السياسية للبلاد من خلال تأسيس الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد، وتعزيز علاقات حزبه مع القوى والأحزاب والتيارات اليسارية – التقدمية في فنزويلا، التي أمنت له فرص النجاح في الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية، كذلك في صوغ تحالفات بلاده القارية والدولية.

ورغم مواجهته لقوى الردة والرأسمال واليمين الفنزويلي العسكري والسياسي (محاولة الانقلاب العسكري على حكمه قبل سنوات، والإضرابات المتعددة للشركات الفنزويلية والمتعددة الجنسيات..)، فإن برامج حزبه الناجحة، التي أنهت الأمية في بلاده، وفتحت البلاد واسعة نحو تحول اقتصادي- اجتماعي لصالح الطبقات والفئات الواسعة، قد أمنت له ولحزبه رصيداً شعبياً وطنياً، ساهم في تكريس توجهه الوطني الاستقلالي. كذلك صحة تحالفاته وعلاقاته القارية، التي ساهمت مساهمة كبيرة في تعزيز استقلال بلدان القارة، وفي إقامة توجهات قارية أمريكية جنوبية- لاتينية استقلالية مناهضة للتبعية وللإدارة الأمريكية ونهجها.

وعمق من نهجه التحرري الوطني والعالمي، عبر تحالفاته الدولية، وخاصة مع الدول النامية الساعية إلى تعزيز استقلالها، والرافضة لسياسة الهيمنة والتفرد والأحادية القطبية الأمريكية، ونجح في صوغ علاقات متميزة مع هذه الدول، واستطاعت فنزويلا أن تنسج علاقات مستقلة مع هذه البلدان استناداً إلى صحة ودقة مواقفها الوطنية والدولية. فنزويلا البوليفارية، التي استطاعت في أقل من عقدين إنجاز هذه التحولات الاقتصادية- السياسية الهامة، واجهت فيها السياسات الغربية ونجحت في ذلك، حققت تقدماً اجتماعياً هاماً تمثل في البرامج الحزبية- الحكومية الساعية إلى إلغاء الفوارق الطبقية الواسعة السابقة، وإلى توزيع (عادل) للثروات الوطنية على الشعب الفنزويلي، كذلك في التأثير الواضح والفعال في دعم نضالات دول الحوار الفنزويلي خصوصاً، وشعوب القارة الأمريكية عموماً. وإذ تثير مسألة دور الفرد، على أهميتها، في العملية التاريخية، فإن تشافيز استوعب ذلك مبكراً، وعمل من أجل إيجاد الأداة السياسية – الحزبية، التي من شأنها مواصلة طريق الاستقلال الوطني الاقتصادي والسياسي، وترك بصماته الهامة في هذا الإطار، بفضل كاريزمايته وصحة مواقفه وتوجهاتا، وقدرته على الفعل والتأثير في هذه العملية السياسية- الاقتصادية، وتالياً في الشعب الفنزويلي وطبقاته وفئاته الكادحة.

فنزويلا التي استطاعت بقيادة حزبه الاشتراكي الموحد وتحالفاته اليسارية – التقدمية من تجاوز الصعوبات والمؤامرات الداخلية (العسكرية منها والاقتصادية)، ومن تجسيد شعاراتها (اشتراكية القرن ال ،21 ثروات الوطن لشعبة.. إلخ) نجحت أيضاً في تصحيح مسار شعوب ودول القارة الأمريكية الجنوبية – اللاتينية، وفي القيام بدور قاري – عالمي اعترفت به الإدارة الأمريكية وحلفاؤها أيضاً.

وإذ تستعد فنزويلا لانتخابات رئاسية طارئة ومبكرة (خلال شهر من تاريخه)، وتواجه خلالها اليمين الفنزويلي وحلفائه الخارجيين، فإن سياستها وتوجهها يستندان إلى الإنجازات التي تحققت في عهد تشافيز، وإلى فشل المحاولات الخارجية، الأمريكية خصوصاً، للتأثير على، أو تغيير مسار فنزويلا، وهذا ما أكده نائب الرئيس نيكولاس مادورو خلال تشييع زعيم البلاد، كذلك القادة العسكريون والسياسيون لفنزويلا الذين أعلنوا أيضاً الوفاء لزعيمهم وتوجهاته وسياسته الداخلية والخارجية.

إن صحة نهج تشافيز وحزبه وتحالفاته الوطنية والقارية، وشعبية ائتلافات اليسار في القارة الناهضة، وصداقة فنزويلا لكل من الصين وروسيا وإيران وسورية، وإرث تشافيز البوليفاري المخلص، ستساعد كلها في تعزيز موقع فنزويلا التقدمي في القارة والداعم لقوى التحرر وللدول النامية في العالم.

العدد 1104 - 24/4/2024