في اليوم العالمي للتضامن مع القدس الحاجة إلى بنية سياسية ووطنية فلسطينية جديدة!

إن إحياء الذكرى ال 46 لاحتلال القدس الشرقية، وإعلانها بشطريها (الشرقي والغربي) عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل، عبر تنظيم (التظاهرة الكبرى نحو القدس)، وبمشاركة أكثر من خمسين عاصمة ومدينة عربية وغربية، أعاد الانتباه إلى مركزية القضية الفلسطينية في المنطقة، وهي القضية التي حاول التحالف الصهيوأمريكي تهميشها وطمسها. كما أن ردود الفعل الإسرائيلية الهمجية على المظاهرات التي حاولت الوصول إلى مدينة القدس، وسعت من إدراك ما تمثله إسرائيل كدولة احتلال كولونيالي عنصري. وكذلك الوعي بأن اتفاق أوسلو، وما تلاه من مفاوضات واتفاقيات جميعها فشلت في طمس جوهر القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني ديمقراطي، وقضية شعب مستعمر من جانب نظام كولونيالي عنصري. هذا الإدراك هو الذي يفسر هذا الحجم الواسع من المشاركة الشعبية الفلسطينية والعربية والدولية لنصرة القدس، وإعلانها عاصمة دولة فلسطين النهائية، وهذا الكم الكبير من التأييد لنضال الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ذلك نبهت التظاهرة العالمية لنصرة القدس إلى تحولات كبيرة جارية في المنطقة، باتت تضع ضغوطاً على الدول العربية لإعادة النظر في المبادرة العربية للسلام، وإعادة تقويم علاقاتها البينية المستقبلية التي تسبب انعدام وزنها الإقليمي والدولي.

علاوة على ذلك، بات واضحاً أن القيادة السياسية الإسرائيلية المهيمنة ب(تجييراتها الحزبية المختلفة) ليست بصدد أي تسويات سياسية، سواء كانت مرجعيتها اتفاق أوسلو، أم المبادرة العربية. ولهذا لم يبق أمام المفاوض الفلسطيني (أو العربي) ما يمكن أن يراهن عليه، وإنما بات مدعواً إلى وضع إعادة بناء الحركة الوطنية على رأس أوّلياته، وذلك بعيداً عن تأثرات المحاور الإقليمية والتدخلات الدولية. كما أنه يتعين على حركتي (فتح وحماس) أن تستخلصا دروس المرحلة السياسية الراهنة، بما يستدعي منهما الانخراط النشط والجاد في تثبيت الأسس الوطنية للمشروع السياسي الفلسطيني، والذي لن تستطيعا من دونه، الاستقلال التام عن تأثيرات المحاور الإقليمية، ولا الاستناد إلى حقهما الوطني في مواجهة الاستحقاقات القاسية للزمن الوافد.

فلسطين قضية مركزية تفرض نفسها من جديد

إن المؤسسات والهيئات الوطنية الجامعة والفاعلة والتمثيلية، أي تلك التي تتمتع بشرعية ديمقراطية ونضالية وبمرجعية وطنية، هي غائبة عن الفعل السياسي الفلسطيني، وقد طرحت ولاتزال العديد من الرؤى والبرامج الهادفة إلى إنهاء حالة التناحر والصراع الداخلي الحاد، والذي بات يشمل مسألة التمثيل والمرجعية والبرنامج الوطني الواحد.. لكن الانقسام سيبقى إن لم تدرك حركتا (فتح وحماس) أن أياً منهما وحدها، لن تستطيع إدارة الحقل السياسي الفلسطيني ولا أي من مؤسساته، ولن تستطيع تمثيل الشعب الفلسطيني عربياً أو إقليمياً أو دولياً، ولا قيادة النضال الوطني التحرري، ولن تقوى على معالجة المشكلات المتعددة التي تواجه الشعب الفلسطيني في تجمعاته الرئيسية.

إن المدخل لإنهاء حالة الانقسام وإنجاز المصالحة الوطنية يتمثل في إدراك ضرورة إعادة بناء المشروع السياسي الفلسطيني كمشروع وطني تحرري ديمقراطي، لابد من أن يقوم على مبدأ توسيع وتعميق المشاركة السياسية وفق برنامج وطني جامع. فإما أن يكون هناك مشروع سياسي وطني يتسع لجميع مكونات الطيف السياسي والأيديولوجي والحزبي في إطار مؤسساته الوطنية الموحدة والجامعة والشرعية، وإما أن يتفجر المشروع بصاعق الاستقطاب التناحري الداخلي، الذي تغذيه، عن قصد أو من دون قصد، التجاذبات الإقليمية والتدخلات الدولية التي تبعده عن أوليات النضال من أجل حق تقرير المصير وإقامة الدولة السيادية وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم.

لن تستقيم المصالحة الوطنية إذا لم ترسُ على أساس وطني وديمقراطي لا لبس فيه، إذ لم يعد ممكناً مواصلة عملية التفاوض العبثية بينما سياسة قضم الأراضي وتهويد القدس والتوسع الاستيطاني، قائمة على قدم وساق، لأن في هذا تضليلاً وغشاً للشعب الفلسطيني بداية، وخداعاً للعالم تالياً، كما أنه لم يعد ممكناً الاستمرار في توهم وجود فعلي لسلطة فلسطينية، سواء في رام الله أم في غزة، ب(رئيس سلطة ورئيس حكومة ووزراء، وما يتبع ذلك من مراسم وألقاب ومراتب وميزانيات وجولات سفر)، لكن من دون سلطة فعلية. فالسلطة الفعلية مازالت بيد إسرائيل التي تسيطر على الموارد الطبيعية والأجواء والطرق والمعابر والتجارة الخارجية ومختلف مناحي الحياة الرئيسية. علاوة على ذلك، لم يعد مفهوماً أو مبرّراً استمرار التنسيق الأمني في ظل مواصلة إسرائيل الاستيطان وتوسيع البؤر الاستيطانية وإقامة المزيد من الحواجز العسكرية وفرض الحصار واعتقال الآلاف من النشطاء والمناضلين الفلسطينيين.

إن إعادة تقويم المفاوضات والتنسيق الأمني يستدعي الاتفاق على استراتيجيا واضحة للمقاومة تمنح كل شرائح المجتمع وطبقاته دوراً فاعلاً، لكن هذه المسألة -وهي لابد منها مادام الاحتلال والاستيطان قائمين- لا تعني اختزال هذه الاستراتيجيا في شكل وحيد الجانب يستبعد مشاركة جميع مكونات الشعب، ويترك القرار بشأنه في يد هذا الفصيل أو ذاك، من دون اتفاق وطني شامل. فالاتفاق الوطني الشامل على استراتيجيا للمقاومة هو الذي يحميها من وصمة الارتهان لقوى إقليمية أو دولية لها أجندتها الخاصة، ومن أن تستخدم ذريعة لتبرير الانقسام والاستقطاب الداخلي، كما يحمي من إنشاء أجهزة أمنية قامعة للحريات العامة وللتعددية السياسية والفكرية والثقافية، وذلك باسم المقاومة.

إعادة بناء المشروع السياسي والوطني الفلسطيني

إذاً، يترتب على توضيح الأساس السياسي للمصالحة تغييرات في بنية الهيئات والمؤسسات السياسية والنقابية الوطنية، بدءاً من بنية السلطة والأحزاب، وانتهاءً بمؤسسات (م.ت.ف)، إذ لم يعد ممكناً  ترك مؤسسات السلطة تعمل بالطريقة نفسها، وبالأجندات ذاتها، وبالاعتماد المطلق على الريع الخارجي بكل ما يحمله من شروط واشتراطات. إن ما يحتاج إليه الشعب هو سلطة تعمل تحت إشراف وتوجيه (م.ت.ف) بعد إصلاحها وإعادة إحياء وتفعيل هيئاتها التشريعية والنقابية، لكي يكون بمقدروها رعاية المصالح الحياتية المباشرة للمواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون سلطة ذات بنية تقشفية إلى أبعد الحدود من دون رتب وامتيازات ومقرات فاخرة وسيارات فارهة، في الوقت الذي يعاني سكان الضفة وغزة أعلى نسب بطالة ومعدلات فقر في شرق المتوسط. ويمكن تخفيض النفقات، والاعتماد بشكل رئيسي على الموارد الذاتية، إذا تم الإصلاح الإداري والمالي، وتمت محاربة الفساد بكل جدية، فهذا من شأنه أن يرسي الوحدة الوطنية على أسس تحظى بشعبية وثقة واسعتين.

وتتمثل المهمة المباشرة أمام القوى السياسية الفلسطينية (الوطنية والإسلامية والعلمانية)، في إعادة بناء المشروع السياسي على أسس وطنية ديمقراطية، وذلك لمواجهة السياسة الإسرائيلية الكولونيالية القائمة على حشد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية في معازل (بانتوستانات)، وعلى تكريس الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وعزل القدس عن كليهما. ومن الواضح أن إسرائيل ستواصل نهج التمييز العنصري ضد فلسطينيي أراضي ال 48 المحتلة، والإصرار على تجاهل حق العودة لفلسطينيي اللجوء والشتات، كما ستواصل العمل بجميع الوسائل، وعلى رأسها القوة العسكرية، لإيصال الشعب إلى حالة من التسليم بالهزيمة.. من هنا حاجة الشعب إلى قيادة موحدة ومؤسسات وطنية جامعة لإفشال المحاولات الإسرائيلية، ومن ثم توليد قناعة بأنه لا بديل عن نهجٍ عمادُه مقاومة الاحتلال وممارساته، وأنه لا خيار أمام الشعب سوى مواصلة النضال من أجل حريته واستقلاله ودحر الاحتلال الاستيطاني والتمييز العنصري ونظام الأبارتهايد.

لكن إفشال أهداف السياسة الإسرائيلية  بعد أن سيطر على السلطة في إسرائيل اليمين واليمين المتطرف، لن يكون سهلاً إذا استمر تفرّد أي فصيل فلسطيني في السيطرة على المشروع السياسي، والقرار الفلسطيني، أو إذا اعتُمد التفرد في تشكيل مرجعيات المشروع السياسي، أو إذا عُطلت عملية إصلاح مؤسسات (م.ت.ف) وتفعيلها.

استحقاقات لا مفر من مواجهتها

إذاً لابد من إدراك أن أي إضعاف أو إلغاء أي من مكونات المشروع السياسي الوطني هو إضعاف للمشروع كله، وجعله عرضة للمزيد من الانكشاف والتهميش. وهذا أمر رأينا بعض نتائجه المأسوية سياسياً، والكارثية وطنياً في الأعوام الأخيرة. ويكفي أن نلحظ كيف انتقل ميدان مناقشة الشؤون الفلسطينية الوطنية والمصيرية: (قضايا المفاوضات والمقاومة، والانتخابات، وإعادة تشكيل الهيئات الوطنية، والميزانيات، وقضايا الإصلاح والفساد، ودور الأجهزة الأمنية ووظائفها، وغيرها). من المؤسسات الوطنية الفلسطينية إلى العواصم العربية والإقليمية والدولية، وإلى الفضائيات الإعلامية. بتعبير آخر بات النظام السياسي الفلسطيني يعيش أشد حالات الانكشاف وفقدان الوزن منذ تشكله في نهاية ستينيات القرن الماضي، وبالتالي لم يعد ممكناً إعادة التماسك إلى النظام السياسي الوطني من دون معالجة الشرخ الجيوسياسي الذي بات ينخر في مركز هذا النظام. فبغير هذه المعالجة لن تكون القوى السياسية التي تنشط تحت مظلة هذا النظام قادرة على أداء دورها الكامل في إحباط وإفشال السياسة الإسرائيلية، سواء تلك المتمثلة في إقامة كيان المعازل (البانتوستانات) تحت مسمى (حل الدولتين)، أم التحضير لمشروع الإدارة الثلاثية (الإسرائيلية – الأردنية – الفلسطينية) للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ،1967 أم مواصلة تغيير الواقع السكاني والجغرافي في عموم أراضي فلسطين التاريخية.

العدد 1107 - 22/5/2024