الثقافة في ميزان العقل

يبدو عالمنا اليوم، وكأنه يعيش مرحلة انتقالية تتم فيها غربلة المفاهيم والقيم، مرحلة يتخلص فيها من مفاهيم ويعدّ نفسه لمفاهيم جديدة، وتبدو العلاقات بين الشعوب، وكأنها تطورت أو في طريقها للتطور عما كانت عليه طيلة ثلاثة قرون. فالغليان الذي كان دوماً وأبداً يحكم العلاقات بين الشعوب لم يعد يترجم حروباً مجنونة لا تبقي ولا تذر ويخسر فيها الجميع، بل من الملاحظ أنّ هذا الغليان قد صار أو تطوّر ليصبح ثقافياً.

فالمجتمعات الحديثة تبدو وكأنها تمقت الحروب وتحاول تجنّبها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، كما أنّ أرواح الأفراد تبدو ثمينة للقوميات المنتصرة والمسيطرة، والتي تعلمت دروس التاريخ بذكاء وفرضت نفسها نظاماً عالميّاً جديداً.

ونجد أنفُسَنا  أقصد الجيل الجديد  جيلٍ جديدٍ معنيين بشدّة بهذا الغليان، الذي هو قدرٌ دائم للتفاعل بين الشعوب في طبيعته وحيثياته، من حيث كوننا نحن من سيتحمّل إرهاصاته وأوزاره وآثاره المستقبلية، هذا التفاعل الثقافي الذي يُفتَرَض بِه أن يكونَ إيجابياً ولخير الشعوب التي تحمل ثقافات تقليدّية، بقدرته على غربلة مفاهيم تلك الثقافات، التي باتت تشعر بنفسها أنها على المحك، وبقدرته على خلق مفاهيم جديدة قادرة على أن ترفعَ رأسَها بشكل حقيقي في هذا العصر الإلكتروني، الذي كان كجميع العصور التي سبقته لا يرحم الضعفاء والمهمّشين.

ولكن وللأسف، فإن في التفاعل الثقافي ما يدعو إلى الإحباط والقلق أكثر مما يدعو إلى التفاؤل، فالتفاعل المنشود لا يبدو كما يجب أن يكون أي معترك ثقافي تتصارع فيه المفاهيم فتلقي بالخرافاتِ جانباً، وتعزّز الموضوعي وترتقي بالذاتي، بل يبدو أن معظم المثقفين قد أقاموا أنفسهم حرّاساً للأفكار القديمة، التي عفا عليها الزمن تحت دعاوى الهويّة والخصوصيّة، وأخذوا يضربون النواقيس حتى إن الموضوع برمّته يبدو للكثيرين وكأن هناك حمّى اسمها الثقافة الغربية ستجتاح بقيّةَ الثقافاتِ. نعم! الثقافةُ الغربيّةُ بهذه البساطة، وبهذا المنطق الاختزالي الاتجاهي، ومن دون قدرة أحد من هؤلاء على إعطاء سمات رئيسية معيّنة وواضحة، ترسم منحى محدداً للثقافة الغربية، وتعرفها وما أكثر ما تراها في ميزان المتفقّهين مع ما يسمى بالثقافة الشرقيّة.

ولكم تبدو العقول، وكأن لها في موازينها شؤوناً، ولكم تبدو شؤونها أحادية واختزالية واتجاهية. وكم هي مثيرةٌ للاستغراب والتهكّم بقدرتها على استيعاب ثقافات الآخرين، ومن ثم اختزالها اصطلاحاً زينافوبيا من كلمة  XENOPHOBIA

 تلك الثقافات التي تحتاج إلى آلاف الكتب لدراستها وسبر أغوارها ومعرفة اتجاهاتها المختلفة.

ونتساءل بوصفنا تلاميذ في دنيا المعرفة ليُجيبنا هؤلاء الأساطين عن أي ثقافة يتحدثون.. وثقافة من يقصدون؟ ديكارت ومؤلفاته الفلسفيّة أم لايبنتز ونقده لديكارت؟ سبينوزا ورسالته في اللاهوت السياسي أم هيوم وبحثه؟!

 الطبيعة البشريّة أم (كُنت) ونقد العقل الخالص؟

 لوك أم روسو؟ ثقافة نيتشه الذي لم يترك حجراً على آخر في الدنيا الأخلاق أم ثقافة كيرغارد

إذا كان يقصد بها ثقافة العقل، فالعقل ميزة محددة للنوع البشري ولدى جميع الثقافات، وإن كان هذا العقل يقتصر في تفكيره على منحى محدد من مناحي الحياة ولا يشمل كل فئات التفكير والمعرفة،وفكرت بشكل آخر،ثم وبافتراض أنها ثقافة العقل،فهل ترى العقل اليوناني والحضارة اليونانية، التي قال عنها ديورانت ذات مرة إنها لم تكن سوى مسخ لحضارات الشرق الأدنى هي من خارج تلك الثقافة أم من نسيجها؟

-إذا كانت ثقافة الإلحاد،فإن معاقل الإيمان الأعمى تقول غير ذلك، لأن هؤلاء يشكّون أصلاً بقدرة الإنسان على معرفة أي شيء.

-إذا كانت الثقافة التي محورها الفرد، فجميع ثقافات العالم كانت ولا تزال وسيظلّ محورها الفرد،ولكن ظلّ ويظلّ ذلك السؤال العلقم دائماً ولدى جميع الثقافات: من هو ذلك الفرد؟

هل هو المواطن، الذي ليس لديه ما يميّزه سوى كونه مواطناً،أما أنّه ذلك المستثنى بإلا، لدى الثقافات التي نشأت وترعرعت بمستثنى بإلا دائم، إلا التسلُّط والاستبداد،إلا النفعية و العشائرية والمذهبية والطائفية؟

-وإذا كانت هناك ثقافة غربية وأخرى شرقية، فهل نتائج الثقافة الشرقية هو حالة استثنائيّة من خيانة الأفراد لأنفسهم أولاً ولمجتمعاتهم ثانياً، أم عن نتائج الثقافة الغربية هو حالة استثنائية من قمع القوميات الديمقراطية المتطوّرة، والمنتصرة للقوميات الشخصانية المتخلّفة والمستبدّة، أم هناك تحالف بين الحالتين الاستثنائيتين غامض ومبهم ويبرر الانحطاط؟

إن دلالات اصطلاح الثقافة الغربية الاختزالية والاتجاهية تكشف فيما تكشف عن عجز مريع لدى غالبية المثقفين عن فهم لماهيّة الثقافات الإنسانية، وعلاقتها بالشعوب بوجه عام، وعن عدم فهم لعلاقة الثقافة بالجغرافيا بوجه خاص.

فالثقافات الإنسانية، وإن كانت قد تأثرت بالجغرافيا، لكنها لم تكن أبداً لتخضع لها، بل على العكس من ذلك فقد كانت دوماً تسمو بها. فثقافات الشعوب الحقيقيّة كانت دوماً تسمو بالكيانات الجغرافية، وتُعطِها قدسيّة فتصبح تلك الكيانات أوطاناً، كما كانت تسمو بالإنسان وتعطيه كينونة اجتماعية فيصبح مواطناً. ولم تحدد ثقافات الشعوب سوى غايات الإنسان، وطموحاته في العيش ضمن مجتمعات عادلة يحكمها القانون، لذلك لم تكن سوى الاتجاه الذي يشير نحو الأفق.

وكما أن خصوصية الإنسان لا تولد إلا من حريته، كذلك كانت خصوصية الأمم والشعوب لا تولد إلا من حريتها، وأما حراسة الأفكار وتقييدها بالسلاسل فلم يُوَلِّدا عبر العصور إلا العبوديّة.

إن ثقافة الشعوب الحقيقيّة هي ثقافة مواجهة مع قيم التزييف والازدواجية، ومن ثمّ هي ثقافة مواجهة مع جميع الثقافات التي تخرج الجواسيس، غربية كانت أو حتى تراثيّة!

إنها ثقافة تمتلك الشجاعة الكافية لفتح آفاق المجادلة المعرفية بدلاً من نفي الحقيقة والقفز فوق ترسباتها نحو الوهم والخرافة.

إنها ثقافة العقول المتحدّية، التي بَنَت معاقلها على قمم البراكين غير عابئة بأبواب الجحيم، وليست أبداً ثقافة العقول المغناطيسيّة المتذبذبة، والقابعة في إبر الملاّحين وأروقة السلاطين.

العدد 1105 - 01/5/2024