«وطني عم يوجعني»!

قبل بدء الصراع في سورية، كنا عندما نضع كلمة (سورية) بأي لغة ونبحث عن صورها بمحرك البحث (Google) نجد متحفاً ضخماً من الصور للمناطق يشدّنا، مثل أفاميا، أوغاريت، ماري، الأبواب الدمشقية السبعة، الجامع الأموي الكبير، الشارع المستقيم، الأسواق، المتاحف، معلولا، صيدنايا، وغيرها وغيرها. نجد أيضاً وجوهاً تبتسم وتفتَحُ النفس والقلب على الحياة.. صوراً تشبه الحياة لا بل كانت هي الحياة.. ولا نستغرب هذا النبض من الحياة وهذا التنوع الكبير، فحضارات وشعوب كثيرة عاشت وازدهرت هنا.

واليوم حاوِلوا وكرِّروا العملية نفسها، وابحثوا عن صور لسورية، ستصلكم صور مقفلة كالموت، صور من البشاعة والخراب ولون الدم تقشعر لها الأبدان! صورٌ خلّفتها الحرب اللعينة الدائرة على أرضها، فلون الفجيعة والموت طغى على جمال بلادي القديم وألقها الأول.

فبعد كل الانتهاكات التي تعرض لها البشر بسورية، نجد يد الحرب المدمرة تطول الحجر أيضاً، فالآثار السورية تعرضت، كما نعرف، للكثير من التخريب، والسرقة، والنهب، والتدمير.

وأمام هذا المشهد الغريب من الأذى الذي لحق بالبشر والحجر، نجد أنفسنا نعبر من تاريخ قديم نحو تاريخ جديد، وبين التاريخين، هنالك شوطٌ واسعٌ من الدماء والخراب وعذاب القلب!

ومن هول المصيبة تسأل أنفسنا: إلى أين؟ إلى أين ستأخذنا بلدنا أم نحن إلى أين سنأخذها؟

أي أماكن أثرية سنزورها مع أبنائنا غداً؟ أي مناهج دراسية وإرث حضاري سننفخ بها وبه عقول أبنائنا وخيالهم غداً؟

أي برامج سياحية سنصممها للزوار الأجانب غداً؟ مع أنهم من قبل كانوا يعيشون خبرة رائعة، عندما يزورون سورية ويشعرون أن البيت بيتهم، وأن لهم حصة ومكاناً في سورية وطن الجميع.

نسأل دائماً: أيهما أهم البشر أم الحجر؟ بالطبع لا شيء أغلى من الروح البشرية، لكن الحجر أثبت أهميته ومكانته هو أيضاً. فالحجر يحمل بداخله ذاكرة الشعوب وذكرياتها ويشكل رمزاً يعطي دليلاً قاطعاً مؤكداً حضارتها الضاربة في القدم والتاريخ.

وشعبٌ بلا ذاكرة هو شعبٌ بلا تاريخ، ولنفهم أكثر هل يمكن للإنسان أن يكون بلا ذاكرة؟ هذا مستحيل وصعب القبول، فلا يمكن له أن ينفصل عن ذاكرته وماضيه.

للأسف، في بلدي كانت الإساءة مضاعفة وكان القتل مضاعفاً، انتهك الإنسان وانتهك التاريخ وسجِّل يا وطن وسجِّل يا تاريخ !

أشعر بألم كبير وأنا أتكلم عن هذه الانتهاكات التي لحقت بسورية، وكأننا ضربنا بالحضارة والتاريخ والإنسان عرض الحائط ومشينا. فيا ليتني ولدت وعشت في غير هذا الزمن، لكي لا أرى ما أرى!

لأنني اليوم أقول:

 (وطني عم يوجعني)..

بقهره يوجعني، بدماره يوجعني، بالتآمر عليه يوجعني، بحزن ناسه وخراب بيوتهم ونفوسهم يوجعني، بانتهاك بشره وحجره يوجعني… يوجعني وما أصعب أن يوجعك وطنك!

وأما بعد.. فالبكاء على الأوطان لن يحركَ حجراً ولن يعيدَ بشراً.

لذلك علينا أن نعلم جيداً أن غياب الرمز أو البنيان الحضاري لا يلغي أبداً قيام تلك الحضارة على أرضنا .و لنحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه والحفاظ على ما بقي منها، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى نقول (الحمد لله على سلامتنا)، فقد كُتب لنا عمر جديد، ربما لنكتب تاريخاً جديداً لبلدنا، بعد أن ينهي الكبار لعبتهم على أرضنا.

ولنهتم جيداً هذه المرة وكل مرة ببناء الإنسان، لأن رجاءنا الأول والأخير في الإنسان السوري، فالإرث السوري الثقافي والعمراني والتاريخي كان وراءه فكرٌ يخطط ويبدع وإرادة تنجز وتعمِّر.

وأخيراً أقول: الطريق صعبٌ ووعرٌ، نعم، لكن لنحاول أن نلعن الظلام ونضيء شمعة، علها تنير أنفسنا ودربنا وغدنا، ويخلصنا نورها من هذا الظلام العقيم.

العدد 1105 - 01/5/2024