مصير سورية يجب أن يقرره الشعب السوري

توجهت أنظار العالم إلى جنيف، بأمل أن يتمكن المؤتمر هناك من تقديم حل للكابوس الذي تكابده سورية. أدى مؤتمر جنيف الثاني إلى اجتماعات وجهاً لوجه بين ممثلي الدولة السورية وممثلي متمردي المعارضة، ولكن ساد اعتقاد منذ البداية بأن مؤتمراً كهذا من غير المحتمل أن يحقق اختراقاً مهماً باتجاه إنهاء الحرب الأهلية في سورية.

سمي هذا المؤتمر بجنيف 2 لأنه يعقب مؤتمراً عقد في حزيران 2012 في المدينة نفسها، كان مؤتمر 2012 برئاسة المبعوث الخاص للأمم المتحدة والأمين العام السابق كوفي عنان. وكان تجمعاً مكوناً بصورة رئيسية من حكومات أجنبية أرادت إسقاط الدولة السورية، وأصدر قراراً يدعو إلى حكومة انتقالية.

كانت الحكومة في ذلك الوقت تتراجع في الحرب الأهلية، وبدا من غير المحتمل أن تستمر طويلاً، وغذت الولايات المتحدة الفكرة العامة عن السقوط الوشيك لحكومة بشار الأسد، وأعلنت في الكثير من الأحيان: (كل الخيارات على الطاولة)، وإذا لم يكن التمويل الضخم وتدريب المتمردين من خلال الدول التابعة للولايات المتحدة (العربية السعودية وقطر وتركيا) كافياً، فقد كان متوقعاً أن تجد الولايات المتحدة طريقة للتدخل مباشرة. في ذلك الوقت كان التحدي الرئيس أمام الولايات المتحدة وحلفائها الصغار وعملائها تشكيل كيان سياسي معارض قابل للحياة يمكن تنصيبه في السلطة.

كان المثال الليبي حديثاً في ذهن كل شخص، اتضح بسرعة في ليبيا أن المتمردين اليمينيين بغالبيتهم، ليست لديهم فرصة للفوز في الحرب الأهلية، وعندما كان معقلهم بنغازي مهدداً، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الإمبرياليون قرار (منطقة حظر جوي) عبر مجلس الأمن الدولي.. وكان ذلك كل الشرعية التي احتاجتها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة لبدء قصف ليبيا وتدمير البلد وقلب الدولة.

سورية ما كان لها أن تصبح ليبيا .2. ما كان للأنموذج الليبي في إسقاط دولة مستقلة أن يتكرر في سورية. رفضت روسيا والصين التوقيع على قرار (منطقة حظر جوي) مماثل. قامت إدارة أوباما في أواخر صيف 2013 بتحضيرات لقصف سورية، وكانت الذريعة هجوم بغاز لم تتحدد المسؤولية عنه، والذي كان لدى الدولة السورية الدافع الأقل لارتكابه، ولكن تدخل روسيا وموافقة الدولة السورية على تفكيك أسلحتها الكيميائية، حرما إدارة أوباما من ذريعتها لبدء حرب جديدة.

ما ميز جنيف 2 عن جنيف 1 هي الظروف على الأرض، فمع مرور الزمن عرف السوريون الذين يعيشون في المناطق الموجودة تحت سيطرة المتمردين طابعهم الحقيقي.. كثيرون من الناس الذي كانوا معارضين لحكومة بشار الأسد، صارت تتملكهم الكراهية والخوف مما يمكن أن تبدو سورية تحت سيطرة المتمردين.

الشجار الوحشي بين المتمردين

وكان الشجار الوحشي سبباً مهماً آخر لهزائمهم.. المتمردون ليسوا جماعات متجانسة، ولا يتصفون بالمركزية العالمية، ولكن يمكن بشكل عام تصنيفهم في معسكرين واسعين، يتألف أحدهما من القوى المرتبطة بما يسمى بالجيش السوري الحر، بقيادة ضباط انشقوا عن الجيش السوري. والجيش السوري الحر هو القوة التي تدعمها القوى الغربية، لأنها قوة (مؤيدة للديمقراطية)، ولكن الشيء (الديمقراطي) الوحيد لديها هو ولاؤها لمحسنيها الإمبرياليين.

برز المعسكر المعارض الآخر كقوة مرعبة في بعض المناطق التي يسيطر عليها التمرد، ويضم هذا المعسكر بالدرجة الأولى مقاتلين غير سوريين، من بلدان أخرى عديدة من ضمنها العراق وليبيا وحتى الشيشان. ترتبط هذه القوى بالقاعدة أو تتعاطف معها. (الدولة الإسلامية في العراق والشام) تشكيل سياسي يمثل بعض هذه القوى، ولكن ليس جميعها، بالنسبة لهذه القوى، دولة سورية العلمانية، التي توفر حقوقاً متساوية لجميع المذاهب، ينبغي إسقاطها وتغييرها، بفرض قانون الشريعة في ظل دولة طائفية على نحو صارم.

حدثت صدامات بين مختلف الجماعات المتمردة منذ المراحل الأولى للحرب الأهلية، ولكن الاشتباكات المعزولة تطورت في الأشهر الأخيرة إلى حرب شاملة، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو مركز موال للإمبريالية مقرّه في أوربا، وارتفع عدد القتلى في القتال الدائر بين (الدولة الإسلامية في العراق والشام) والقوى الإسلامية المتمردة منذ 3 كانون الثاني إلى 1395. من المهم تذكّر هذه الحقيقة عندما يندد الإعلام والحكومات الغربية بالأسد ل(قتله شعبه).. إن الحرب الأهلية من حيث التعريف تعني أن كل طرف يقتل شعبه، في حال المتمردين يضم القتلى مؤيدي الحكومة ومدنيين وزمراً متمردة منافسة.. يعكس بعض جوانب جنيف 2 التغيير في ميزان القوى، خلافاً لجنيف .1. فالدولة السورية ممثلة في هذا المؤتمر، وإيران كانت مدعوة لفترة قصيرة إلى المؤتمر، على الرغم من أن الأمين العام للأمم المتحدة سحب الدعوة بسرعة تحت ضغط الولايات المتحدة.

دبلوماسية تعكس ميزان القوى

مازالت الدبلوماسية والعلاقات الدولية في أي وقت تعكس ميزان القوى.. إن قوة المعسكر الإمبريالي تعني أن المؤتمر الذي توسطت فيه الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون غير متحيز، ولا حتى أن يعكس بشكل واقعي ميزان القوى في الأزمة السورية. أحد المؤشرات على ذلك هو أن جميع ممولي المتمردين السوريين ومؤيديهم حاضرون في المؤتمر، في حين أُهملت إيران. العربية السعودية وقطر مملكتان خليجيتان رجعيتان جداً، موّلتا المعارضة منذ اليوم الأول..تركيا، العضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، حولت مناطقها الحدودية إلى منصة للمتمردين، ولكن إيران استبعدت من المؤتمر بسبب تأييدها لحكومة بشار الأسد.

وتمثيل المعارضة هو المؤشر الآخر على أن الضغط الإمبريالي، وليس الحقائق على الأرض، هو الذي يحدد بدرجة كبيرة عمل المؤتمر. في وقت مبكر من عام ،2011 بعدما بدأت الأزمة في سورية، ساعدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في تشكيل المجلس الانتقالي السوري، وبعد ذلك تحول اسمه إلى المجلس الوطني السوري الذي أصبح أخيراً الائتلاف الوطني السوري. كان على الائتلاف الوطني السوري أن يمثل وجهاً محترماً وعلمانياً ومؤيداً للديمقراطية لمعارضة داخل سورية بعيدة عن أن تكون قوة علمانية سورية تتوق إلى الديمقراطية. يضم الائتلاف الوطني السوري مثقفين وأكاديميين في المهجر لا علاقة لهم بسورية أو بالمتمردين. انتخب الائتلاف الوطني السوري رؤساء.. ضموا أستاذاً جامعياً في باريس، ومواطناً أمريكياً يسكن في تكساس منذ عقود، وحتى متمردو الجيش السوري الحر الموالي للإمبريالية أبدوا اعتراضهم بانتظام على تمثيل الائتلاف الوطني السوري لهم.

لا يقتصر الأمر على أن مشاركي المعارضة السورية في جنيف 2 لم يكونوا يمثّلون حقاً المتمردين السوريين، بل إنهم لا يمثلون حتى المعارضة السورية في الخارج. عقد الائتلاف الوطني السوري اجتماعات سادها الخصام الشديد والفوضى في إسطنبول، محاولاً اتخاذ قرار بالمشاركة في جنيف 2 من عدمه، وفي النهاية أرسل اجتماع إسطنبول مندوبين إلى جنيف 2 بعد مقاطعات وانسحابات قسم من أعضائه، بأصوات تقل بوضوح عن خمسين بالمئة. انسحب المجلس الوطني السوري، وهو أحد المنظمات المكونة للائتلاف الوطني السوري، من الائتلاف في 20 كانون الثاني، اعتراضاً على قرار المشاركة في المؤتمر.

لذلك حضر جنيف 2 ممثلون عن الدولة السورية، ولكن لم يكن هناك ممثلون عن المتمردين الجهاديين، وكان هناك تمثيل مشكوك فيه جداً للمتمردين الموالين للغرب.. تملك الدولة السورية بوضوح اليد العليا في الحرب الأهلية، ولكن تحت الضغط الإمبريالي، وضعت الأجندة كما لو أن الدولة على حافة الانهيار. أعلن كيري مراراً أن الأسد يجب أن يتنحى، ودعا رئيس الائتلاف الوطني أحمد الجربا الحكومة إلى (نقل السلطة فوراً) إلى سلطة انتقالية. أعلن وزير الخارجية وليد المعلم، رداً على كيري: (لا أحد في العالم يملك الحق في منح أو سحب شرعية رئيس أو دستور أو قانون باستثناء السوريين أنفسهم).

يعكس وقف إطلاق النار واتفاقيات أخرى بين خصوم، كقاعدة عامة، قواهم النسبية على الأرض.. يحاول الطرفان المتحاربان في الكثير من الأحيان تحقيق تقدم مهم تماماً قبل جولة رئيسة من المفاوضات، لتحسين قوة المساومة على الطاولة، ولكن لماذا كانت قوى المعارضة السورية متصلبة في المفاوضات، في الوقت الذي تمنى فيه بهزيمة بعد أخرى على الأرض؟ لماذا ممثل جانب في موقع ضعف نسبي يدعو خصمه إلى (نقل السلطة فوراً)؟!

المتمردون يراهنون على تدخل إمبريالي

الجواب هو أن قادة المعارضة المدعومة إمبريالياً لا يعملون على أساس الاعتماد على قوتهم، لم يعتمدوا في كل حساباتهم على التمويل والتسليح والتأييد من جانب الإمبرياليين وعملائهم الرجعيين فحسب، بل كذلك على آمال بتدخل عسكري مباشر من جانب رعاتهم الغربيين.

كان (تغيير النظام) منذ وقت طويل السياسة الحقيقية للولايات المتحدة تجاه سورية، وفي حين أخفقت حتى الآن مساعي إدارة أوباما لحشد التأييد لحملة قصف سورية، إلا أن الخطر لا يزال قائماً. كان بإمكان الأطراف المتصارعة في الأزمة السورية التوصل إلى حل تفاوضي منذ وقت طويل، لولا رفض المعارضة أي شيء أقل من الاستسلام التام للدولة. ترفض المعارضة التفاوض بشكل واقعي، ليس لأنها تنتصر في الحرب الأهلية، بل لأنها تراهن على تدخل غربي.

مصير سورية يجب أن يقرره الشعب السوري.. فلترفع الولايات المتحدة يدها عن سورية!

 

عن مجلة (ليبريشن نيوز) الأمريكية

العدد 1105 - 01/5/2024