وقف الدعم والتمويل الخارجي.. مهمة دولية أيضاً!

شهدت الأزمة السورية، وماتزال، العديد من القرارات الإقليمية والدولية، إضافة إلى المبادرات المتتابعة، حول كيفية إيجاد حل لها.. وفي هذا السياق كانت وثيقة جنيف الأولى (30 حزيران 2012)، ثم (التفاهم) الروسي- الأمريكي (أيار 2013) حول الدعوة إلى عقد مؤتمر جنيف ،2 وأجمعت كل هذه الجهود (نظرياً) على الأقل، على أن حل الأزمة يبدأ من بند عنوانه بات شديد الوضوح لكل الأطراف المنشغلة في هذه الأزمة إيجاباً أو سلباً. ويتلخص في ما أشارت إليه تحديداً وثيقة جنيف، والأهم في بندها الأول الذي ينص على وقف الإرهاب وتجفيف منابعه، ووقف التمويل والدعم (الإقليمي) و(الدولي) لهذه المجموعات الإرهابية وفق التوصيف الأمريكي أولاً، ثم (الدولي) ثانياً. ويقتضي هذا الموقف (الاضطراري) أو (الإقراري)، بأن مسألة وقف التمويل والدعم الخارجي لهذه العصابات والمجموعات المتطرفة التكفيرية، وفق التعابير الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً على الأقل، باتت تتطلب أيضاً موقفاً واضحاً وعملياً من كيفية التعامل معها، وخاصة بعد ما كشفته جولتي مؤتمر جنيف 2 من إحراجات للبعض، واضطرار للبعض الآخر في التعامل مع الواقع السوري كما هو.

فالأمور تتضح أسبوعياً، إن لم نقل يومياً، حول مواقف (طرفي) الأزمة، من محاولة احتكار أحدهما للتمثيل المعارض، المترافق مع إقرار علني بعدم قدرته على إلزام هذه العصابات، إن لم نقل غض النظر عن تصرفاتها (الهمجية)، مقابل المرونة المبدئية التي أبدتها وماتزال سورية حكومة وأحزاباً وطنية.

وهذا ما تلخص في استعداد الوفد الحكومي السوري لمناقشة كل بنود وثيقة جنيف، أو (التفاهم الروسي – الأمريكي)، إنما على أساس الوثيقة نفسها، أي الحفاظ على السيادة الوطنية، ورفض التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة المباشرة أو غيرها، كذلك انعكاسات التباين في هذين الموقفين الأساسيين على الأزمة وأطرافها، وتحالفات العديد من هذه المجموعات الإرهابية- وفق التصنيف الدولي مرة أخرى-.

ويتلخص ذلك ببساطة سياسية، وعملياً، بوقف التمويل والدعم الخارجي لهذه الأطراف، بغض النظر عن رؤيتها للحل، وبخاصة هذه العصابات التي تعمل على إعادة عقارب الزمن إلى مرحلة العصور الوسطى، وتدل على ذلك ممارساتها أيضاً، في المناطق التي مازالت حتى تاريخه خارجة على سلطة الدولة، وسياسة الكهوف المظلمة التي تعتمدها بديلاً عن ضرورة الحوار الجدي، الذي يفترض به أن يشمل كل أطياف القوى الحريصة على سورية (دولة وكياناً). ونخص هنا تحديداً القوى السياسية، على اختلاف أطيافها، والتي عليها أن تأخذ بالحسبان حجمها ووزنها وموقفها من الأزمة السورية أولاً، ومن موضوعة السيادة الوطنية السورية ثانياً، وما يتطلبه هذا الإقرار العملي، وليس (النظري)، على أهميته، من تجفيف منابع التطرف ورفضه ثالثاً.

وإن كانت الأطراف هي التي ترعى هذا التطرف عملياً، وترفضه نظرياً. وجوهر المسألة أنها تستخدمه أداة ووسيلة، فإن هذه السياسة ستقود الأزمة السورية إلى (الأفغنة) أو (الصوملة) أو (العرقنة) لها، وإن العمل الجاد على حلها، وتجنب تبعاتها على سورية بأطيافها (دولة ومعارضات)، وانعكاساتها، التي بدأت هذه الدول، وبخاصة دول الجوار السوري، تقرّ بمخاطر هذه السياسة التي عانت منها الدول الغربية عموماً، وتجهد بكل السبل نحو إيجاد صيغة ما، مقبولة في أفغانستان، مع قرب موعد الانسحاب الكامل المفترض لقوات الاحتلال منها نهاية هذا العام، وتالياً تبعاتها على دول الجوار، وعلى أجواء التطرف التي تعاني منه الدول العربية نفسها.

فقد عبرت سورية من خلال وفدها الحكومي، الذي تؤيده الأحزاب الحريصة على سورية الوطنية، عن رؤيتها مراراً لمسائل الدعم والتمويل الخارجي، وانعكاساته سلباً وبشكل كارثي على الأزمة السورية وآليات حلها المفترضة. وطرحت القوى الوطنية السورية (أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية) بشكل أساسي موقفها من المبادرات والوثائق والقمم التي عقدت، أو التي يعمل على عقدها أيضاً. (رغم عدم مشاركتها في إطار الوفود السورية الرسمية – الحكومية)، حول ضرورة التمسك بمسألة أساسية عنوانها العمل على تنفيذ ما جاء في وثيقة جنيف الأولى (التي لم تشارك سورية في صياغتها، وأبدت العديد من الملاحظات حول بنودها)، وجوهرها وقف سفك الدم السوري، وتخريب البنى والمؤسسات التي تعود للشعب السوري، وعليه مهمة تاريخية عنوانها الحفاظ على إنجازات عقود طويلة من البناء وتبعاته.

وأن المسألة تعود مرة أخرى في جوهرها إلى الالتزام بما جاء في الوثائق المقترحة، والتي ينظر إليها بوصفها استكمالاً للعديد من (المبادرات) الإقليمية والدولية، وأن الحل عنوانه شديد الوضوح، وجوهره وقف دعم هذه العصابات والمجموعات التكفيرية، وضرورة انعكاس ذلك في مواقف الأطراف المشاركة وسياساتها في المؤتمرات التي جرت وتلك القادمة أيضاً.

كما أن تحديد المواقف من هذه الأطراف باتت مسألة أكبر من سورية، وإن كان تمس راهناً دول الجوار السوري، فإن انعكاساتها ستتجاوز المنطقة، وفي هذه الدول على اختلاف مواقفها من أزمة باتت عناونيها وخياراتها شديدة الوضوح أيضاً.

إما الاستمرار بالتخريب والتكفير الذي سيمس الأطراف (المعارضة) الصامتة حتى تاريخه، كذلك الدول والقوى المؤيدة له، وهذا ما أشارت إليه مرة أخرى مواقف الأحزاب الوطنية السورية، وإما وقف التدخل والدعم الخارجي بصيغه وأشكاله المختلفة، وتجفيف منابعه.. وإن سورية دولة وأحزاباً وطنية، لن تغفر ولن تسامح من عمل، ومايزال، على تخريب بناها الاقتصادية والمؤسساتية العامة والخاصة أيضاً.. وإن تجارب الحفاظ على العلاقة مع العديد من هذه العصابات والمجموعات الإرهابية ليس قرارها الخاص المجرد، بل ستجد نفسها عاجلاً أو آجلاً مضطرة للتعامل معها، والوصول إلى حلول ما، حولها، وانعكاسات ذلك على هذه الدول أولاً، وهذا ما نراه جلياً وراهناً في أفغانستان وغيرها.

العدد 1105 - 01/5/2024