مذابح «سيفو».. أحد الفصول المنسية من تاريخ شعوب ضحِّي بها على مذبح لعبة الأمم

(سيفو) كلمة سريانية تعني: السيف، باللغة العربية، وهي ترمز إلى السلاح الذي استُخدم في عمليات القتل الممنهجة التي تعرض لها المواطنون السريان والآشوريون في الدولة العثمانية عام 1915 الذي سُمِّيَ في الأدبيات التاريخية السريانية: (شاتو دسيفو)، أي (عام السيف).

هذه المذابح لم تكن الأولى التي تعرض لها السريان والآشوريون في الدولة العثمانية، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر بدأت عمليات القتل الممنهج بحق الأقليات الدينية والعرقية في الإمبراطورية العثمانية. ويتفق معظم الباحثين في التاريخ التركي الحديث على أن سبب هذه المجازر يعود إلى يقين القادة العسكريين الأتراك بأن أي ثورة داخلية أو حرب أهلية ستؤدي إلى انفصال أجزاء واسعة من الإمبراطورية، مثلما حدث في دول البلقان بين منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين،  حين نالت معظم تلك المقاطعات استقلالها. كما أدت عمليات تتريك الشعوب القاطنة ضمن الدولة العثمانية واستعمال العنف المبالغ به لصهر كل المكونات العرقية في البوتقة التركية، إلى ردود فعل قوية وعنيفة، أدت إلى انتشار الفكر القومي المعارض لهذه السياسة، كالعربي والأرمني وإعادة إحياء النزعة القومية الآشورية/السريانية.

وقد بدأت أولى عمليات الإبادة على نطاق واسع سنة 1895 فيما سمي (المجازر الحميدية) عندما قُتِلَ مئات الآلاف من الأرمن والسريان في مدن جنوب تركيا، وخاصة أضنة وآمد، بعد اتهام الأرمن بمحاولة اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني، وكان السبب غير المباشر لتلك المذابح ليس إبادة الأرمن والمسيحيين، بل تلقينهم درساً، وإبقاءهم في أماكنهم المختارة لهم في (نظام الملّة)، وذلك لإخماد حماسهم وإطفاء جذوة الشعور القومي عندهم، وخصوصاً الأرمن. غير أن السبب المباشر للمجازر التي حلت بالآشوريين/السريان، عام 1915 هي خشية العثمانيين من انضمامهم إلى الروس أو الثوار الأرمن، وخصوصاً بعد فشل حملة القوقاز الأولى وكارثة معركة (صاري قاميش) التي حلت بالجيش العثماني بداية عام 1915 والتي اندلعت على إثرها عمليات القتل الواسعة ضد الأرمن.

كيف نفّذت عمليات القتل؟

استخدم العديد من الطرق في قتل المدنيين، وكان السلاح الأبيض هو الأكثر شيوعاً، لأنه غير مكلف ومنه اُشتق اسم المجازر بالسريانية. ويُروى أنه في بداية المجازر في آمد (ديار بكر) اُعتُقِلَ نحو ألف من أعيان البلدة من الأرمن والسريان بتهمة حيازة أسلحة، وبعد أن جُمِعَ مبلغ مالي مقابل إطلاق سراحهم، قرأ عليهم مفتي المدنية خبر الصفح عنهم، وسيقوا بعد ذلك في شوارع البلدة ووضعوا في عوامات خشبية على نهر دجلة ليتم إيقافهم في ملتقى نهر بطمان بدجلة جنوبي المدينة، حيث عُرّوا من ملابسهم وذُبحوا ورُميت جثثهم في النهر. في الوقت الذي قامت السلطات بإخبار ذويهم بوصولهم سالمين إلى الموصل. وقد قام العثمانيون بهذه العملية عدة مرات حتى أنه يروى أن أهالي الموصل كانوا يشاهدون وصول العوامات الخشبية الفارغة متبوعة بجثث المقتولين طافية على النهر، فقام القنصل الألماني هناك بالاحتجاج لدى والي الموصل، غير أن الأخير ألقى اللوم على والي ديار بكر. وقد حاولت السلطات العثمانية بعدئذ إجبار كاهن الأرمن في المدينة على توقيع وثيقة تثبت وفاة الأعيان بأسباب طبيعية، غير أنه رفض، فقاموا بقلع أسنانه ونتف لحيته واغتصبوا زوجته وقتلوها، ثم فقؤوا عينيه ودقوا مسماراً بجبينه.

وأثناء مجازر نصيبين وجزيرة ابن عمر الثانية في آب 1915 اقتيد الرجال إلى وادٍ بعيد وذُبحوا، بعد تخييرهم بين الموت ودخول الإسلام. فقتلوا خلال يومين 800 رجل. بعد يومين أرسلت بقية العائلات في عوامات خشبية، وفي أعالي النهر جرى التقاطهم من قِبل سكان محلّيين فاغتُصبت النسوة وقُتلن ورميت جثثهن في النهر.

وتعتبر قرية قرة باش، شمال شرق آمد، من أولى القرى السريانية التي أبيد سكانها إبادة شبه كاملة. فبعد أن جُمعت جميع قطع الأسلحة فيها، دخلها مجموعة من خمسين رجلاً، وقاموا بجمع الرجال فيها وقتلهم، بعد ذلك قام مسؤولان من حركة (تركيا الفتاة) بتحريض سكان القُرى  المجاورة للهجوم على قرة باش واعدين إياهم بالغنائم مقابل إبادة سكانها. وبالفعل هوجمت القرية في أيار 1915 فنُهِبت المنازل وأُحرِقت، كما قام المهاجمون باغتصاب النسوة وقتلهن. ويروي الدكتور فلويد سميث الذي كان عاملاً في الإرسالية الأمريكية بآمد ما شاهده:

في 21 أيار استقبل مجمعنا ثلاثة أو أربعة أشخاص، وفي اليوم التالي وصلت مجاميع من النساء والأطفال الأرمن والسريان. وقد أخبرني القرويون أن السكان المحليين هاجموهم قبل ثلاث ليال في الوقت الذي قام الجيش العثماني بسدّ الطريق إلى آمد، غير أن البعض تمكن من التسلل إليها. ويمكن تصنيف أنواع الجروح التي تكبدوها كالتالي:

1- جروح من سيوف أو سكاكين على فروة الرأس والوجه والعنق والأكتاف والظهر والأطراف.

2- ثقوب ناتجة عن طلقات نارية على الأطراف.

3- جروح ناتجة عن آلات قاطعة ثقيلة كالفؤوس.

وفي وقت لاحق، استُهدف قرية (قابية)، فالتجأ سكانها إلى كنيسة (مار قرياقوس)، فجُمع الرجال ورُبطوا وقُتلوا حرقاً، بينما اغتصبت النسوة في الكنيسة وقُتِلنَ بالفؤوس، بحسب رواية إحدى الناجيات التي تمكنت من الهرب بعد أن اختبأت بين جثث أقاربها، وكان الذكر السعيد الحظ بالنجاة من هذه المحرقة  فتى تمكن من الهروب، بعد أن اختبأ في كروم العنب.

وبالرغم من صدور قرار بالعفو عن جميع المسيحيين ما عدا الأرمن، فإنه لدى ترحيل قافلة من النساء والأطفال باتجاه ماردين، قام محمد رشيد باشا، والي آمد، بإيقافها في قرية (غوليكه) وجمع 800 طفل في أحد المباني وقام بإشعال النار فيه شخصياً.

والجدير بالذكر أن بعض عمليات القتل تمت بهدف الدعاية الإعلامية المضادة، فقد ذكر جوزيف نعيم، وهو قسيس كلداني نجا من مجازر الرها، في كتابه (هل ستفنى هذه الأمة؟) أن عمليات الترحيل القسرية بدأت في آذار ،1915 حين وصلت إلى المدينة قوافل المرحّلين الأرمن من الأرياف المحيطة بها وهم في حالة مزرية. بينما بدأت عمليات الإبادة في الشهر اللاحق وطالت جميع المسيحيين دون استثناء. فقد قاموا بجمع بعض الذكور الآشوريين/السريان ابتداء من عمر السادسة عشر وقاموا بتعذيبهم وقتلهم في ساحات المدينة، ثم قاموا بتصويرهم على أساس أنهم مواطنون أتراك قتلهم الأرمن.

ويبقى أن نشير إلى أن محمد رشيد باشا، في معرض الدفاع عما اقترفته يداه، قال: إنه استلم أوامر الإبادة ببرقية من طلعت باشا وزير الحرب تحتوي على ثلاث كلمات فقط: أحرق – دمّر – اقتل.

في كتاب (مجد السريان)  لمار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، مطران حلب للسريان الأرثوذكس يصف النكبة التي تعرض لها السريان قائلاً:

لقد أودت الحرب بحياة نحو مئة ألف سرياني في مختلف الأبرشيات، وتركت وراءها عدداً كبيراً من الأيتام والأرامل، وضعضعت معظم الأبرشيات المهمّة، لا بل قضت على بعضها بسبب هجرة أبنائها إلى بلاد الله. ودمّرت كنائس كثيرة وأديرة تاريخية في بلاد ما بين النهرين لعبت دوراً مهماً في سالف الأزمان في نشر الحضارة والمدنية، وتبعثرت المخطوطات الثمينة والذخائر النفيسة والمكتبات الشهيرة، وخلقت جوّاً كئيباً في حياة السريان أينما كانوا، وخسر السريان كمجموعة وكأفراد ممتلكاتهم من أموال منقولة وغير منقولة. وبالتالي تفكّكت وحدة الطائفة الجغرافية بالتقسيمات السياسية التي جاءت كتحصيل حاصل لمخططات الاستعمار. وصحيح أنّ نهضة جديدة قامت في ربوع سورية ولبنان بإعادة تشكيل أبرشيات سريانية في كل منهما، ولكنها كانت على حساب أبرشيات أخرى سريانية زالت من الوجود.

في الرابع والعشرين من نيسان، في كل عام، يتذكر السريان والأشوريون والأرمن، أجدادهم الذين سقطوا شهداء على مذبح شهوة السلطة التي انتابت مجموعة عنصرية تركية رأت أن مجد الأمة التركية لا يتحقق إلا بإبادة جميع المكونات التي لا تتقاطع دينياً أو قومياً مع التعريف الذي وضعوه لهذه الأمة. ويستنكرون، بصمت، التجاهل دول الغرب وبعض دول الشرق لمأساتهم التي رأت أن الإهمال والتغاضي عن هذه المجازر، في سبيل ضم تركيا إلى صفّها، بما يمثله موقعها الاستراتيجي الهام اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، أهم وأنفع لمصالحها من اتخاذ موقف أخلاقي بحق شعوب قررت بعد أن دفنت أمواتها بحسرة وضمدت جراحها بصمت، أن تخرج من ظلام الموت إلى نور الحياة، لتجاهد في سبيل بناء مجتمع إنساني أكثر عدلاً وإنسانية، يُقدّم الحق على المصلحة، وكرامة الإنسان على المنفعة، ويُذكّر الإنسانية جمعاء بأن صمت دول العالم على ما حدث في تركيا في بدايات القرن العشرين هو ما جرّ عليها أهوال النازية ومآسي البلقان والمذابح التي تجري حالياً على امتداد الشرق الأوسط.

العدد 1104 - 24/4/2024