المخطط الأمريكي الأطلسي الخاص بأوكرانيا محاولة غربية لإحياء نمط جديد من الحرب الباردة

الحيلولة دون فدرلة أوكرانيا قد تذهب بها

نحو حرب أهلية تؤدي إلى تقسيمها بين شرقية وغربية

لايختلف اثنان على أن ماتشهده أوكرانيا من تطورات وتداعيات تلت الانقلاب على الحكومة الشرعية الذي نفذته زمرة من النازيين الجدد، يعود إلى أن هذه الزمرة تعمل تحت إمرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إي) التي تسعى للنيل من السياسة العامة التي تتبناها روسيا، تتعارض كلية مع النفاق السياسي الأمريكي والسياسة العامة الأمريكية التي يدرك العالم أجمع مضامينها الاستعمارية وأهدافها وأبعادها، التي بلغت في تطورها وتماديها ومعاداتها لمصالح الشعوب المشروعة المرحلة الإمبريالية، تلك السياسة التي تصنعها وتتبناها وتنتهجها الرباعية سيئة الذكر المتمثلة بـ(وكالة المخابرات المركزية ـ البنتاغون ـ المؤسسة الصناعية الحربية ـ التروستات الاحتكارية الأمريكية) هذه الرباعية خاضعة أيضاً لإرادة الأيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية).

فبعد أن أخفقت الولايات المتحدة الأمريكية في خططها العسكرية الرامية لمحاصرة روسيا من خلال الدرع الصاروخية، ووصلت في ذلك إلى طريق مسدود، شرعت في البحث عن وسائل ضغط جديدة على روسيا، فجددت محاولات الهيمنة على الدول التي تربطها بروسيا علاقات صداقة قائمة على احترام السيادة والمنفعة المتبادلة، بعكس علاقات التبعية القائمة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، ولعل خير مثال على ذلك هو التدخل الأمريكي الفظ في أوكرانيا، ووقوف واشنطن العلني والصريح وراء ماتشهده الساحة الأوكرانية من أحداث خططت لها تلك الرباعية التي تقودها وكالة المخابرات الأمريكية، وتقوم بتنفيذها سلطات كييف الانقلابية ذات الخلفية النازية العنصرية.

هنا تبدو مفيدة وضرورية الإضاءة على الزيارة التي قام بها مدير الـ(سي. آي. إي) جون برينان إلى أوكرانيا في الثالث عشر من الشهر الفائت، والتي وصفها الكاتب آندريه آيشهوفر في صحيفة (دي فيلت) الألمانية بأنها زيارة غير عادية (طارئة)، وهي زيارة بدأت سرية (جاء برينان تحت اسم مستعار) ثم افتضح أمرها وانكشفت أهدافها التي يمكن تلخيصها بأنها إنما جاءت من أجل تعزيز فرص التعاون مع الاستخبارات الأوكرانية، والوقوف مباشرة على مايجري في الساحة الأوكرانية من جهة، وممارسة أعمال استخباراتية أمريكية ضد روسيا من جهة ثانية، وبحث السبل الكفيلة بتقديم دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا، على غرار مباحثات سابقة جرت في جورجيا، فقد شاركت قوة أمريكية قوامها مئة وخمسون خبيراً أميركياً من منظمة (غريستون) العسكرية الخاصة في عملية عسكرية تقودها السلطات الانقلابية الأوكرانية ضد مواطني الشرق الأوكراني، مايعني في النتيجة سعياً أمريكياً محموماً من أجل أطلسة أوكرانيا، وهو أمر من الواضح أن موسكو ترفضه جملة وتفصيلاً.

يمكن القول إن محاولات الولايات المتحدة الهيمنة على أوكرانيا سوف يكون مآلها الفشل والإخفاق، نتيجة جملة من الاعتبارات، أهمها أن وقوع أوكرانيا فريسة للمخالب الأمريكية من شأنه تعريض المصالح الحيوية الروسية المشروعة والأمن القومي الروسي للخطر، وهذا ماتعتبره موسكو خطاً أحمر لن يكون بمقدور أحد تجاوزه، ولعل سابقة جورجيا في عام 2008 ورد الفعل الروسي آنذاك، تشكل درساً على واشنطن أخذه في الحسبان، في ضوء احتمال تكراره في أوكرانيا، وهذا ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقوله (إذا تعرضت مصالح روسيا المشروعة للخطر المباشر، كما حصل في أوسيتيا الجنوبية، فإنني لا أرى أية طريقة أخرى سوى الرد ضمن احترام القانون الدولي، فالهجوم على مواطنينا الروس هجوم على روسيا ). مايستدعي من كييف أن تأخذ في الحسبان أن العملية العقابية التي تنفذها في جنوب شرق أوكرانيا تُواجه باستياء نسبة كبير من سكان البلاد، بدليل انضمام وحدات من سلاحي الطيران والمدرعات الذين أُرسلوا لقمع الاحتجاجات الشعبية، إلى صفوف المحتجين.

فمن دون شك يمكن وصف قرار السلطة الانقلابية في كييف الذي اتُخذ بمشاركة من رئيس الـCIA  جون برينان، استخدام القوات المسلحة الأوكرانية لقمع الاحتجاجات السلمية في جنوب شرق البلاد، بأنه جريمة، لأنه من غير المقبول مطلقاً استخدام المدرعات الثقيلة والطيران الحربي ضد السكان، مايعني أن من أعطوا هذه الأوامر قد ارتكبوا جريمة ضد الإنسانية، ويجب أن يمثلوا أمام المحكمة الدولية لقيامهم بسفك دم الأبرياء في أوكرانيا، وعلى سلطة كييف البحث عن حل توافقي يرضي جميع الأطراف للأزمة الداخلية في أوكرانيا، وإيلاء الاهتمام لمطالب المحتجين في دونيتسك ولوغانسك وخاركوف ومناطق أخرى في البلاد، وما لم يتم ذلك فإن أي سياسة غير مدروسة تتبعها السلطات الحالية بتوجيهات من راديكاليي (يورو مايدان) قد تؤدي إلى نشوب حرب واسعة النطاق على الأراضي الأوكرانية.

هنا تجدر الإشارة إلى أن المحتجين في جنوب شرق البلاد يتبعون تكتيك المعارضة الموالية للغرب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 وشباط (فبراير) 2014 عندما كانت المباني الحكومية في مراكز المدن في أوكرانيا الغربية تُحتل بتوجيهات من قبل تورتشينوف وياتسينيوك وتيغنيبوك، والإشارة أيضاً إلى أنه في ذلك الحين كانت هذه الأعمال تُقَيمُ من قبل الغرب على أنها (احتجاجات سلمية) بينما يعتبر الغرب أن المحتجين في جنوب شرق أوكرانيا الآن هم انفصاليون ومتطرفون وإرهابيون، مؤكداً انتهاجه لسياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين.

وحسب ما يراه خبراء يراقبون عن كثب ما يجري في أوكرانيا، فإنه يتوجب على كييف التخلي عن الخطاب المضاد لروسيا ووقف الهستيريا حول الوجود العسكري الروسي بالقرب من الحدود الأوكرانية، والإصغاء جيداً وبتمعن لرأي رئيس المخابرات الأوربية الأدميرال غيورغي ألافوزوف الذي صرح لإحدى الإذاعات الفنلندية بأن لا أساس لاتهام موسكو من قبل كييف والغرب بتهمة تنظيم الاحتجاجات والتحريض عليها، مؤكداً أن التصريحات حول وجود جنود روس على الأراضي الأوكرانية هي عارية عن الصحة، وأن الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في المدن الجنوبية الشرقية قد خرجوا ليعبروا عن مطالبهم المشروعة.

وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن ممثلي الغرب الذين يكيلون الاتهامات لروسيا بأنها تستخدم وحدات استطلاع تابعة لها على الأراضي الأوكرانية، يتغاضون في الوقت ذاته عن وجود نحو 1000 موظف تابع لشركات أمنية خاصة على الأراضي الأوكرانية حتى الآن، غالبيتها أمريكية وفرنسية، تم أرسلوا في أواخر عام 2013 وبداية عام 2014 بذريعة حماية السفارات الغربية وحماية مكاتب الشركات التجارية الكبرى في أوكرانيا، في حين يرى خبراء مستقلون أن المرتزقة الموجودون في أوكرانيا يمكن أن تستخدمهم كييف للقيام بعمليات تطهير في الجنوب الشرقي لأوكرانيا، لأنهم يشكلون وحدات قتالية أكثر خبرة وغير ملتزمة بأي وازع أخلاقي.

خلاصة القول، إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يتحملان مسؤولية كبيرة لدى محاولاتهم إحياء نمط جديد من الحرب الباردة، عندما يدعمان السلطة الانقلابية في كييف في لجوئها إلى العملية العقابية لوقف الاحتجاجات باستخدام القوة، وقطع الطريق على تسوية الأزمة بالطرق السلمية، والتمادي في انتهاج سياسة مدمرة تجاه أوكرانيا بإدخالها في أتون حرب أهلية قد تؤدي إلى تقسيمها بين شرقية وغربية، مايستدعي للحيلولة دون ذلك توقف السلطة الانقلابية عن اللجوء إلى القوة في جنوب الشرق الأوكراني، وهو لجوء وصفه رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف بأنه (دليل عجز إجرامي من جانب سلطات الأمر الواقع في كييف التي عليها أن تعود إلى رشدها، وإلا فإن أوكرانيا ستواجه مصيراً محزناً).

العدد 1105 - 01/5/2024