كي لا ننسى: مراد يوسف.. مناضل لا يُنسى

النموذج، اقتران الأقوال بالأفعال، الصدق والمصداقية، والتواضع بالفطرة، والرجولة، تلك هي المسألة. في تاريخ الحركة العمالية العالمية، الكثير من المناضلين الذين جمعوا بين هذه الخصال، وأعطوا كل ما يملكون من أجل مستقبل أفضل للبشرية، دون أن يبخلوا حتى بالحياة.

إلى هؤلاء الرجال والمناضلين ينتمي الشيوعي مراد يوسف (أبو سامي) الذي قدم للحركة العمالية في سورية كل طاقاته، بإنكار ذات، ودون أن يفكر بمصالحه الشخصية.. وعندما جاء الامتحان الكبير في سجن المزة، حيث عرفت معادن الرجال، اجتاز أبو سامي هذا الامتحان بامتياز.

جاء الرفيق مراد يوسف إلى الحركة العمالية، وانخرط في صفوفها بدوافع ثلاثة:

– الدافع الأول هو الدافع الإنساني العميق.. كان يكره الظلم، ولا يقبل به، وقد وجد في الحزب الشيوعي السوري آنذاك ما يبتغيه..

– الدافع الثاني كان دافعاً اجتماعياً، فقد وجد في الحركة العمالية والشيوعية الأداة الحقيقية للتغيير الاجتماعي نحو العدالة.

– الدافع الثالث كان الدافع الوطني.. كانت سورية آنذاك عرضة لمؤامرات كثيرة هادفة لتغيير نهجها الوطني المستقل وربطها بالأحلاف الاستعمارية الغربية. وقد برز الحزب الشيوعي السوري آنذاك قوة طليعية مناضلة من أجل الاستقلال والسيادة الوطنيين.

إذاً هذه الدوافع الثلاثة هي التي قادت مراد يوسف إلى صفوف الحركة العمالية، والحزب الشيوعي السوري، ومنذ ذلك الوقت لم يبخل أبو سامي لا بالجهد، ولا بالوقت في تنفيذ جميع المهام التي كانت تتطلبها منه الحركة.

لقد تعرفت بالرفيق مراد عام ،1957 عن طريق الصديق العزيز فايز جلاحج، وكنا آنذاك في مرحلة (الفتوة). كان أبو سامي يكبرنا بسنوات عديدة، وكنا نعتبره أخاً كبيراً لنا، إلا أننا لم نكن نشعر في الجلوس معه بأي حرج، كنا نتحدث بانفتاح كامل، وكان يصغي إلينا بانتباه، دون أن يشعرنا البتة بأي ضيق، أو رفض لما كنا نتحدث به. هناك أشخاص تلتقي بهم في حياتك، ويمرون أمامك، دون أن يخلفوا أي أثر، أما بالنسبة لأبي سامي، فقد ترك لدينا أنا والعديد من الرفاق الفتيان آنذاك انطباعاً لا ينسى..

كان أبو سامي من الذين تلتقي بهم فلا تنساهم.. وجه متواضع تظهر عليه علامات الطيبة والطفولة، وضحكات تخرج من القلب، واحترام للآخرين، وقوة شكيمة تظهر في عينيه، واستعداد للعطاء كبير جداً، وإنكار ذات.. التقيناه فيما بعد في سجن المزة. فقد اعتقل في بداية الحملة الظالمة التي شُنّت على الحزب الشيوعي في أوائل .1959. أما نحن فاعتُقلنا منتصف العام نفسه.. لم يكن يتحدث عن نفسه مطلقاً، ولكن ما سمعناه من المعتقلين الآخرين عنه كان كبيراً. لقد روى لي الرفيق سعيد خلو، مثلاً، كيف كانت السياط تنهال على جسده دون أن تخرج من فمه كلمة تأوّه واحدة، رغم مرضه الشديد.

في إحدى المرات، وكنا نسير معه مع بعض الرفاق الفتيان آنذاك في ساحة السجن، في الطابق العلوي منه، أثناء فترة النزهة، قال لنا: (اسمعوا يا رفاق، يفصل بين الصمود والتخاذل خيط رفيع جداً. إن هذا الخيط سوف ينقطع وسوف ينهار المناضل.. إذا سمح لنفسه بأن يفكر في شخصه، سيقوده ذلك إلى أن يجد تدريجياً لنفسه المبررات للتراجع، لا تغفلوا ذلك أيها الشباب)!

لقد كان وجوده ضرورياً لنا، نحن الذين كنا نخوض، للمرة الأولى، معركة لم نكن قد تهيأنا لها جيداً.. إنني لن أنسى ذلك أبداً. في ما بعد، على مدى مسيرته النضالية في الحزب والحركة، تعرض الرفيق مراد يوسف للغدر، بيد أنه كان يستطيع أن يجد لذلك التبرير، كان يُرجع كل ذلك إلى الطبيعة الإنسانية، التي تحتوي في داخلها كل التناقضات الموجودة في المجتمع.. كان يقرّ بعدم وجود الشخص المثالي الخالي من الشوائب.. لقد كان يناضل، في سياق تعامله مع الرفاق، من أجل تحسين الشخصية الإنسانية لديهم، وكان يصغي إليهم، ولا يألو الجهد في تقديم المساعدة لهم.

عاش أبو سامي الفترة الأكبر من حياته في منزل متواضع في حي المهاجرين، ولم تكن لديه أية ملكية خاصة، ورغم الإخفاقات الكبيرة التي عاشتها الحركة الشيوعية، والحزب الشيوعي السوري، ورغم سقوط الاتحاد السوفييتي المدوي، رغم كل ذلك، كان أبو سامي يؤمن أن النضال من أجل العدالة الاجتماعية لن يتوقف، وأن التطور التاريخي لا يجري على خط مستقيم دائماً. لقد كان يعرف أنه ستكون هناك انكسارات وهزائم، وهذا الأمر قد أثبته التاريخ، إلا أنه كان يؤمن بأن الحركة في نهاية المطاف ستجتاز هذا المخاض الكبير الذي تتعرض له، وسترتقي إلى مستوى المهام التي تطرحها الحياة أمامها.

توفي الرفيق مراد يوسف، دون أن يعيش مرحلة النهوض في الحركة، إلا أن قيم الوطنية والعدالة والصدق والاستقامة التي انغرست عميقاً في الأرض السورية، كان للرفيق مراد حصة فيها، ولذلك فهو سيحيا في انتصارها المؤكد.

العدد 1104 - 24/4/2024