في مراكز الإيواء أشكال أخرى من الحياة

نحن نعيش في مجتمع نسمع فيه بالكثير من القصص التي تحدث ربما مع أقاربنا أو معارفنا، وفي كثير من الأحيان تحدث معنا، ونتمنى أن تبقى قيد الكتمان لا يعلم بها أحد.

ومع الأزمة التي نعيش بها والتغييرات التي شملت المجتمع كله، تشردت الكثير من الأسر وانتقلت للعيش في مراكز الإيواء التي هُيّئت لتحوي الكم الهائل من العائلات التي خسرت كل ما تملك أو لا تعرف شيئاً عن أملاكها، وكثرت الأعداد التي تجمعت في مكان واحد، ذلك أنّ أصغر مركز إيواء يحوي قرابة مئة عائلة من مختلف البيئات والمناطق، لينشأ في كل مركز مجتمع مصغّر لكل ما يحدث في المجتمع الخارجي، فهناك السارق والكاذب والمرتشي إضافة إلى المشاكل التي تنشأ بين الأسر، مشاكل الأهل مع الأبناء، جرائم قتل مشاريع خطبة وزواج فاشل في أغلب الأحيان، علاقات حب تنتهي بمأساة، حالات طلاق لأسباب غريبة، أمراض نفسية وعصبية، وهذا كله بسبب التغيرات والأزمة التي تسببت بنقل العائلة مع كل ما بنته من عادات طيبة وإيجابية في المنزل إلى جو لم تعهده من قبل، ففي المراكز يحدث كل ما يحدث خارجها لكن الفرق أن السرية والخصوصية هنا معدومة، وهذا أثر بشكل سلبي على الحياة الأسرية وحياة الأفراد، فقد التقيت عدداً من القاطنين في أماكن مختلفة في مراكز دمشق وسألتهم عن التغيرات التي طرأت على حياتهم، فقالت لي نور (وهي أم لأربعة أولاد): لقد كنا نعيش في منزلنا حياة مثالية وهادئة، لكن ما إن أتينا إلى الملجأ حتى تغيرت حياتنا جذرياً، والسبب أن كل ما يحدث بيننا مع أولادنا وزوجي يحدث أمام الجميع، فالصوت مسموع والناس تتدخل والأمور تسوء بسبب انعدام الخصوصية والانفتاح على أشخاص أغراب يؤدي إلى تشربك في العلاقات، كل هذا أدى الى عراك دائم بيني وبين زوجي قد يصل بنا إلى الانفصال..

 وتعاني هيام (وعمرها 15 سنة) مشاكل عديدة، فقد كانت مخطوبة لشاب من المركز لكنها تركته بسبب المشاكل، وقالت: الناس كانت تلاحقنا كلما تحادثنا، ما أدى إلى المشاكل مع أهلي وأهله، لكن لو كنا بعيدين عن المركز أو لو كنا في بيتنا فالموضوع مختلف..

 وبوجود الداعمين النفسيين تمكن الكثير من المحبطين والمحبطات من العودة إلى الحياة الطبيعية مثل رشا التي ذعرت من هول القذائف، وندى التي فقدت زوجها، وهيفاء التي تركت خطيبها، وبيان التي عانت من شكوك أهلها التي ظهرت بعد القدوم إلى المراكز وجعلتها مقيدة وتشعر بالألم..

 أما الرجال وهم من أحد أسباب العنف ونتاجه، فقد التقينا مع بعضهم، فقال زوج إحدى النساء أن الزوجة لم تعد تتفهم مشاكلنا، فنحن تركنا عملنا وليس لنا أي مردود مالي، وهذا ما يجعلني غاضباً ومستنفراً لأي مشكلة مهما كانت صغيرة ، وهذا رأي أحد الآباء أيضاً الذي يرى أن الضغوط والخوف على بناته هو سبب يجعله يضيّق الخناق حولهن، لأن البيت مكان آمن والمركز ليس كالبيت بالرغم من الأمان لكن الخصوصية غير متوفرة..

 أما عاصي وهو شاب في الثلاثين من العمر فقال: كلما رغبت في الزواج من فتاة رفض أهلها لأني أقيم في مركز، ما العمل وكل بيتنا قد راح، وراتبي لا يكفيني أكثر من الطعام؟! هذا يجعلني عصبياً في كثير من الأحيان ما يؤدي بي إلى ارتكاب الحماقات التي أندم عليها فيما بعد.

 وترى المختصة النفسية وحيدة أنه توجد العديد من الحالات يتوجب متابعتها بسرعة ودقّة لا سيما الأطفال دون سن الخامسة، والمراهقين، فالأهل يعانون بسبب عدوانية أبنائهم حتى فيما بينهم ومع الأقران، وكذلك المراهقون الذين تفتتت حبال تواصلهم مع أهلهم بسبب الاختلاط مع عائلات مختلفة وغريبة عنهم، وتقول: هنا نحن نعمل على تقريب وجهات النظر، فنستمع الى الأطراف المتناحرة كلِّ على حدة ونناقش مشاكلهم، وتبدو المشاكل الأكثر وضوحاً في معرفة أسرار بعضهم الأسرية فهم يعيشون تقريباً في المكان نفسه ويمكنهم سماع أصوات بعضهم، وهنا نعمل على الإرشاد والتوجيه.

 ويرى أحد المسؤولين عن المراكز أن الخلافات طبيعية، وكثير من العائلات تأتي إليه ليصلح بينهم، ويقول: إنهم يتعاركون من أجل مكان الغرف والدرج والشطف والمكان، لكنهم بالحقيقة مع مرور الأيام أصبحوا عائلة واحدة يمكنهم مسامحة بعضهم، وبوجود المرشدين الاجتماعيين والنفسيين الذين يلتقون مع الرجال والنساء والأطفال أصبحت الأمور أكثر يسراً من البداية ..

 وهكذا تبقى الحياة في المراكز حياة غير مستقرة ينتظر الجميع الفرج بالعودة إلى بيوتهم. والسؤال الآن: هل ستصبح كل المشاكل في المراكز يوماً ما ذكريات جميلة أم أنها ستنسى مع العودة إلى البيوت، أم أننا سنتعلم من تجاربنا ونتطور نحو الأفضل..؟؟

العدد 1105 - 01/5/2024