حنّا مينه… وآراء في «القصة والدلالة الفكرية»

أخذت القصة القصيرة تعبر عن الأمور اليومية العادية وصار القاص يسجل عبر الملاحظة الدقيقة ما يصادفه ويراه منسجماً في هذا مع قول الكاتب الإنكليزي سومر ست موم:

«لا شيء في حياة الكاتب لا يمكن استخدامه في قصة»

اجتهد عدد كبير من الكتاب في ضبط الملامح الكبرى للقصة وتخيّر بنائها، ولا سيما القصة القصيرة، وتوطينها في الحقل البحثي من حيث هي نمط أدبي يسعى إلى أن تكون له ملامحه الجمالية وتقنياته الكتابية التي تجعل منه بنية معرفية عقلية يجتهد كاتبها في تأطيرها بوسائل فنية لتحقيق الإمتاع والإقناع لدى المتلقي.

وقد تنوعت رؤى المبدعين بخصوص وظيفتها، وتباينت آراؤهم بشأن ملامحها وأشكالها الكتابية، وللقصة القصيرة قدرة على تقطيع للواقع وتفصيله بغاية بناء شعرية معناه.

وكتاب (القصة والدلالة الفكرية) لحنا مينه -كما يقول- يتضمن بعضاً من آرائه وكثيراً من آراء كتاب القصة القصيرة، وكبار نقادها أيضاً، إذ يرى مينه أن فن القصة القصيرة، هو الأصعب بين فنون الإبداع، لأنه يتطلب جملة من المعطيات من بينها: (تحويل اللقطة المفردة إلى قصة ذات مضمون وشكل متفردين، مركزين، مكثفين، فيهما الإيقاع والتشويق، وفيهما القدرة على صوغ البداية والنهاية، وإعطاء الدلالة الحديثة من إيماءالحدث لا تقريريته، وإيحاء القول لا مباشرته، ففي التقريرية والمباشرة، وكذلك الافتعال، والتعسف والخطابة، مقتل الإبداع.

والقصة القصيرة قادرة على تصوير تفاصيل الواقع الدقيقة تصويراً ينطلق من المشهد الخام ويرقى به إلى مراتب عليا من التأويل، فيتخلص الحدث المحكي من أشراط الزمن وضاغطات المكان وينفتح على احتمالات الممكن التخييلي.

فالمواعظ الإيديولوجية، والتوجيهات الإرشادية، والتوضيحات تقتل الفن عموماً، وتقتل فن القص خصوصاً، وعلى القاص أن يمتلك أداة التوصيل، وأن يمتلك مفهوماً عن العالم وفهماً لروح العصر،لأن في فهمه وحده، إنقاذاً للإنسان من ضيق الأفق الذي يؤدي إلى الإبهام، فالأدب يطرح القضايا بصدق وموضوعية ويستشرف المستقبل، وتغدو القصة كغيرها من الأجناس الأدبية الأداة الأقوى في التغيير المنتظر.

ويرى حنا مينه أن امتلاك مفهوم عن العالم، يتحقق بامتلاك عناصر ثلاثة: الفلسفة بكل تفرعاتها، وكل نظرياتها، المادية والمثالية، لمعرفة قوانين الكون، ودورها التاريخي، في الانتقال من نظام إلى نظام.

وعلم الاجتماع وما فيه من نظام العمران، وعلم النفس، وارتباطاته بنشوء الإنسان وتطوره وتنوع النفس البشرية وتعددها، فالمعاينة والمعايشة والملاحظة من الأمور المهمة لكاتب القصة، وقد كان تشيكوف يوصي الأدباء الناشئين بركوب الدرجة الثالثة في القطار، ففيها يكون الشعب ومنه يتعلم الأديب، بالملاحظة والخبرة، وكذلك يتعلم الأديب من البيئة ومن المحيط والبلد والمدينة والريف، ولكل من يتصدى للكتابة، ولديه موهبتها، تأتي الضرورة هنا من وجوب إغناء الثروة اللغوية والمعرفية باستمرار.

وعن كتابة القصة القصيرة لا بد من الوقوف عند مقولة آن بورتريان وتوفر بنودها الثلاثة في القصة وهي: الفكرة في المقام الأول، ووجهة النظر الخاصة أو العامة، والمعلومة غير المحددة عن الطبيعة البشرية. فالكائن القصصي كائن حي، من لحم ودم، وهو يتصرف، يحاور، يناقش، يجادل، من منطلق تكونه في سياق الحدث. فالشخصية القصصية تتمرد، تعيش حياتها لا حياة قاصها فقط.

ويطرح حنامينه أسئلة عديدة حول هذا الفن، منها هل يمكن كتابة قصة بغير حبكة؟ ثم ما هي هذه الحبكة؟ وعن إبقاء القصة مفتوحة بغير حبكة، ترتكز على الفاتحة، والعقدة والخاتمة. ويرى أن القصة القصيرة في فضائها المفتوح هذا، تأثرت بقصيدة النثر، بسبب من الاستسهال، والمسألة تنحصر في الحبكة، وكتاب القصة الكبار، من تشيكوف إلى سارويان، ومن أكيناور إلى يوسف إدريس، اعتمدوا بدرجات متفاوتة، الحبكة في قصصهم، وبرعوا فيها. هذه الحبكة كانت تتخفى حيناً، وتتمظهر حيناً وتدخل في نسيج القص كل حين. ويرى حنا مينه  أن الاختلاف في الاجناس الأدبية والفنية هو السمة الأساسية، لأننا لا نجد شخصية ما في هذه القصة، هي نفسها في قصة أخرى، والتنميط، في القصة الواحدة، الذي يتكرر في قصص كثيرة، ولو بأسماء مختلفة غير مرغوب، والنمطية هي التصنيم، وكل صنمية تسيء إلى الابتكار، وتقتل الخيال والتخييل. والقصة القصيرة عند حنا مينه هي بنت اللحظة المأزومة، اللحظة التي تقف فيها الشخصية القصصية أمام مفترق، أمام مصير محدود، وانفجار هذه اللحظة هو انفجار للحدث القصصي، والمرجح ن هذا ما يشكل الصدمة بالنسبة للقارئ لأنه يتوقع شيئاً، ويجد نفسه أمام شيء آخر، مختلف جداً. ولا بد من امتلاك الأسلوب المميز المفرد، فالمبدع، بأسلوبه المبتكر، الخاص به وحده، يصبح مبدعاً، أديباً، أو يراوح في وسطية تأرجحية، بين أسلوبه وأسلوب غيره، خائباً، وخاسراً أحد أهم مقومات إبداعه، فالإبداع سر، ومقتله في توصيفه، والأسلوب جزء ملازم للإبداع.

 ويحسن بنا أن نولي الأسلوب ما يستحق من العناية والنصاعة والأناقة والرشاقة في الأسلوب. ومن مقومات الأسلوب: التركيز، التكثيف، تجنب الحشو، واللغو، والإفاضة بغير ضرورة، والوقف في المكان المناسب، والإقلال من الاستطرادات، والتسلسل المنطقي، والسيطرة على الموضوع، مع الوضوح، وتجنب الإبهام لذاته. والاحتفاظ بالإيقاع نثراً وشعراً، واستبعاد الثرثرة، وابتكار الصور اللفظية، الصورة الرشيقة الدالة، المخترعة، كما أن الصدق في الإبداع هو الإبداع، فإن الإبداع، بشرطه الفني هذا، لا بد أن يكون تقدمياً، وأخذت القصة القصيرة تعبر عن الأمور اليومية، العادية، وصار القاص يسجل عبر الملاحظة الدقيقة، ما يصادفه ويراه، منسجماً في هذا مع قول الكاتب الإنكليزي سومر ست موم: (لا شيء في حياة الكاتب لا يمكن استخدامه في قصة).

فالكتابة بهدف، ولأجل الهدف، هي الكتابة في كل أجناسها، وهي الإبداع في كل أنواعه، فالكاتب يكتب للقارئ، والفنان يبدع للمتلقي، ودونهما لا تكون كتابة. أن نكتب للقارئ، وأن نبدع فناً له، فهذا لا يتعارض والمتعة التي تنتقل، بكل حرارتها، منا إليه، وبغير ذلك لا يستقيم التواصل الضروري، بين المؤدي والمتلقي.

وتبقى القاعدة أن يكتب الكاتب لجيله، لأن الأجيال المقبلة سيكون لها كتابها، ولا تجوز مصادرتهم سلفاً.

ويرى حنا مينه أن دوستويفسكي لو لم يكن في (بيت الموتى) لما كتب عنه كتابه الرائع والمرعب المسمى بهذا الاسم، فطاحونة المعاناة، حسب برناردشو، هي التي تعطي للكاتب مادته الكتابية، ولولا التجربة، والانصهار في بوتقة نارها، لما تحصلت للكاتب الحق، المادة التي يستند عليها. وهكذا يصطاد الكاتب الحياة، ومنها يأخذ عناصر كتابته، وغاية الخطورة في القصة القصيرة: الترهل، كوصف الطبيعة بتطويل، أو وصف الشخصية القصصية بلسان الراوي، وصفاً خارجياً، ومن الأجدر التعبير عنه بالحركة، بالنقلة، بالكشف النفسي الموجز جداً، بالحوار المكثف ذي الدلالة. هذه الأمور التي علينا تركها للشخصية المفردة في القصة، تقدمها لنا بنفسها، بلسانها، بحركتها، بحوارها، بالتعبير الذاتي الذي يعتمد الإيماء، الإيحاء، النهاية المفتوحة سعيدة كانت أم شقية هذه النهاية. وعلينا أن نتجنب العمل السريع، إذ قال جريجور فيتش في رسالته، إلى تشيكوف، التي لم نعثر على نصها الكامل: (عليك أن تتجنب كل عمل سريع!).

واحتفظ بانطباعاتك من أجل عمل يصاغ صياغة جيدة، عمل كامل، تكتبه خلال ساعات الإلهام السعيدة. وليس في عجلة، إن عملاً واحداً كهذا العمل، سوف يقدر ألف مرة كما تقدر مئات القصص القصيرة تنشرها الصحف مهما تكن جيدة، إن أحداً لا يجادل في أهمية بداية القصة والرواية، وثمة من يعتبر البداية القوية جوهرية للقصة، وتقول ماريان مور، لها لي برنت (على الكاتب ألا يبدأ بالوصف غير المجدي، والحذلقة اللغوية، أويتكلم على شخصيات ومواقف ليس لها صلة مباشرة بالقصة التي يكتبها).

إن القصة التي لا تكون قوية ولا تشد انتباه القارئ لا فائدة في استمرار كتابة هذه القصة بالذات ونشرها.

فالتشويق الذي يجتذب القارئ أو المشاهد، تشويق نابع من كلية النص، وليس من بدايته فقط، أو نهايته.

فالقاص المتميز هو من يجد الوسيلة الضامنة للاقتصاد في الكلمات، كما يقول حنا مينه، تفادياً للترهل الأسلوبي، ويبتدع أسلوبه القصصي الخاص به وحده، وصوته الخاص وفرادته الخاصة، ويبذل جهوداً مضنية، متواصلة، وابتكارات للأحداث، وللصور والشخصيات، لم يسبقه إليه أحد، فكلما كان القاص على معرفة واسعة معمقة، بالبيئة التي يعيش فيها، والمحيط الذي يألفه، والإلمام بعادات الناس، كان وصوله إلى هذه الانفرادة والتميز أسرع، فالكتابة معرفة، ومعاينة ومعايشة.

إن كتاب الروائي الأديب حنا مينه (القصة والدلالة الفكرية) كتاب هام قدم فيه النفع لأصدقائه وللكتاب الشباب، أصحاب المواهب، آراء نقدية مهمة في كتابة القصة القصيرة.

العدد 1105 - 01/5/2024