كي لا ننسى: ظهير عبد الصمد أحد العلامات المميزة في تاريخ الحزب..

تعرفت إلى الرفيق ظهير عبد الصمد عام 1962. كان الحزب قد أوكل إلينا أنا والصديق العزيز نبيه جلاحج مهمة إعادة بناء منظمة الحزب في حيي الصالحية والمهاجرين في دمشق.. هذه المنظمة التي تحطمت نتيجة الاضطهاد أيام الوحدة. لقد تناوب على الصلة بالمنظمة عدد من الرفاق، كان من ضمنهم الرفيق أحمد مدراتي، الذي كان معنا في سجن المزة ونعرفه جيداً. أخبرني في إحدى المرات أن الرفاق في القيادة يرغبون برؤيتي، وعيّن موعداً لأجل ذلك. ذهبت في الوقت المحدد، فالتقيت بالرفيق دانيال نعمة، الذي أخبرني بضرورة أن أسعى كي أجد لهم منزلاً خلال فترة وجيزة، لأن اجتماعاً مركزياً سيعقد لبحث المسألة الزراعية على ما أذكر، التي كانت آنذاك مثارة بشدة، بسبب القرارات التي صدرت في أوائل الانفصال بإلغاء قانون الإصلاح الزراعي. أُمّن المنزل وكان يخص أحد الأصدقاء في حي المهاجرين، وعُقد الاجتماع، وكان موسعاً.. وأذكر أن عدداً من أعضاء القيادة قد حضره، ومن بينهم يوسف الفيصل ودانيال نعمة وظهير عبد الصمد وربما إبراهيم بكري أيضاً، لم أعد أذكر.. أتيح لي خلال هذا الاجتماع أن أحتك مع هؤلاء القادة.. بيد أن الرفيق ظهير عبد الصمد قد جذب اهتمامي آنذاك، بتواضعه واهتمامه بالآخرين، وقدرته على الإصغاء إليهم. لقد شعرت بعد أن جلست معه أكثر من مرة خلال فترة الاستراحة، أنني كنت أستطيع أن أتحدث معه بحرية تامة.. لم أستطع أن أشعر بهذا الشعور مع الرفاق الآخرين بالمستوى نفسه. لقد سألني أسئلة عديدة حول عمل منظمتنا، والصعوبات التي تعترضه، ورأي الناس بسياسة الحزب، وكنت أجيبه باندفاع عاطفي يفتقد بعض الشيء للموضوعية. انتهى الاجتماع، ولم أشاهد الرفيق ظهير إلا بعد عدة سنوات، وكانت لقاءات عابرة.

في أول السبعينيات من القرن الماضي، عاد اسم الرفيق ظهير ليظهر في واجهة أحداث الحزب، الذي كان يعيش أزمة عميقة، لم تدرس أبعادها دراسة موضوعية إلى الآن، ونحن لسنا الآن بصدد التحدث عنها، إلا أن ظهير عبد الصمد كان أحد الأقطاب الأساسيين الذين تمحور حول ما طرحوه الصراع الفكري في الحزب. لم أكن أشاركه الرأي آنذاك، إلا أنني لم أكن أؤيد الأساليب التي اتخذت في سياق هذا الصراع، والتي لم تكن مبدئية في الكثير من الأحيان، وقد تكررت فيما بعد أيضاً.

لم أكف عن احترام الرفيق ظهير في غمرة هذا الصراع، وكنت أعتبر أن هناك العديد من الأطروحات التي أختلف معه حولها، إلا أن هناك الكثير من الأفكار التي أتفق بها معه.. إلا أن انعدام الحوار المباشر قد مارس تأثيراً سلبياً على مجرى تطور هذا الصراع. إن معرفتي الدقيقة لمنظومة الرفيق ظهير الفكرية والسياسية والتنظيمية قد تمت بعد ذلك بفترة طويلة. ففي أوائل ثمانينيات القرن الماضي التقينا أنا والرفيق الراحل أبو أكرم (عدنان آله رشي) مع الرفيق ظهير في إدلب، في منزل سكرتير اللجنة المنطقية آنذاك (أبو صفوان). كنا نعمل في أوساط الشباب.. وكنا نقوم بجولة على المحافظات، وكان الرفيق ظهير يزور منظمة إدلب. ترافقنا معه خلال يومين، من إدلب إلى اللاذقية ثم إلى حمص فدمشق.. تناقشنا أثناء ذلك كثيراً، وتعرفت إليه عن قرب، وعرفت أفكاره، وتعرفت على تفاصيل في أزمة الحزب كنت أجهلها.. بيد أن ما أريد التركيز عليه هو منظومته المتنوعة التي شملت السياسة والفكر والتنظيم. كان مقتنعاً في السياسة، أن تحقيق الاشتراكية هو ليس بالأمر القريب، بل هو بعيد المنال، ولن تنضج ظروف انتصارها في المدى المنظور، ولكنها ستتحقق عبر تطور تدريجي لا كما جرى في روسيا وبعض البلدان الأخرى، وستحمل خصائص المنطقة.. انطلاقاً من ذلك كان يقف إلى جانب رسم سياسات تحالفات داخلية وعربية ودولية تعبر عن المرحلة وتخدم هذا التطور التدريجي. كان ينتقد موقف الحزب من المسألة الفلسطينية، وعلى الأخص قبوله بمبدأ التقسيم بعد أن كان قد رفضه سابقاً.. وكان له أيضاً موقف استقلالي عن الحزب الشيوعي السوفييتي، ويؤكد ضرورة الانطلاق في سياسة الحزب من المتطلبات التي تقتضيها المرحلة التي تعيشها البلاد وما تفرضها من مهمات.

فكرياً كان يرى أن التراث التقدمي للمنطقة غني جداً، ويمكن أن يغني الماركسية نظرياً، ويجعلها قابلة للتطبيق، وأن الفهم الميكانيكي للفكر الماركسي شكل اتجاهاً انعزالياً لم يجعل من الحزب حزباً جماهيرياً بصورة فعلية، ولقد وقف ذلك عائقاً أمام صياغة مشروع نهضوي في البلاد، إضافة إلى تخلفه عن معالجة عدد من المسائل، وأهمها المسألة القومية. أما رأيه في أزمة الحزب، فكان يرى أن السبب الرئيس لها يكمن في التنظيم. كان يردد دائماً أن الخلافات الفكرية كانت موجودة دائماً، ولكنها لم تكن تؤدي إلى أي انقسام. إن أزمة الحزب هي تنظيمية بامتياز حسب رأيه، وهي تعكس من جهة أزمة مجتمعية، لأن الحزب وبنيته الداخلية يعبران عن مستوى التطور الاجتماعي في البلاد، ومن جهة ثانية، كان يعتقد أن الحزب بسبب بنيته التنظيمية غير المتطورة، لم يستطع جذب القوى الأكثر طليعية في البلاد، ولم يقدم نموذجاً جاذباً للجماهير الشعبية، نتيجة غياب احترام الرأي والرأي الآخر، وغياب التنوع، انطلاقاً من ذلك، كان يرفض فكرة شخصنة الحزب، أي ربط منجزات الحزب بهذا القائد أو ذاك، وضد تضخيم دور الفرد، وكان يرى أن على الحزب أن يقوم بانعطاف جدي فيما يتعلق بالتنظيم، باتجاه تعزيز الديمقراطية في داخله. كان يعتقد اعتقاداً راسخاً، أن كل ذلك قد أدى إلى ركود في الحزب، وعجز عن مواكبة العصر، وينطبق ذلك على الحركة الشيوعية التي تعيش أزمة عميقة بسبب هذا الأمر. إن التراجع في دور الحركة الشيوعية – حسب رأيه- يعود إلى عاملين أساسيين:

العامل الأول هو أن البنية التنظيمية للحركة والتعامل العقائدي مع الفكر أديا إلى جمود في النظرية الماركسية وعجزها عن تفسير الظاهرات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها التطور العالمي، وهي لم تقدم كذلك النموذج الجاذب أمام مجتمعاتها بسبب غياب الديمقراطية، وانفصال الحزب، خصوصاً في البلدان التي حكمتها الأحزاب الشيوعية، عن الطبقة العاملة وعن الشعب عموماً.. أما العامل الثاني، فإن الأفكار الجديدة التي أخذت تتغلغل إلى داخل صفوف الحركة الشيوعية لم تكن ناضجة بعد النضوح الكافي لإعادة عجلة الحركة إلى سيرها الصحيح، أو أنها كانت ملغومة تهدف إلى تعميق عجز هذه الحركة وتقسيمها أكثر فأكثر. إن وحدة الحزب – حسب رأيه- يجب أن لا تبنى على التطابق الكامل في الآراء، وإنما على التنوع، فالوحدة هي الإطار للتنوع الذي يغني الحركة ويجنبها الكثير من الأخطاء والعثرات.

وأخيراً، لابد من التطرق إلى بعض السمات الشخصية للرفيق ظهير..

كان يكره المداهنة، ويعبر عن رأيه بشجاعة وإن كان ضد التيار.. كان يعلم جيداً أن الظروف ليست ناضجة بعد للتغيير الجذري، لا في الحزب ولا في المجتمع، إلا أنه كان واثقاً بأن ذلك سيحصل مهما طال الزمن.

كان يمكن الاختلاف معه في العديد من المسائل، وكان يمكن الاتفاق معه في مسائل أخرى، إلا أنك لا تستطيع إلا أن تحترمه.

لقد مثّل بصورة مؤكدة مرحلة من المراحل الهامة على طريق نضج الظروف الموضوعية للتطور الديمقراطي، ليس في الحزب وحده وإنما في المجتمع أيضاً.

لقد تابع مسيرة رفاق سبقوه وعاصروه على هذا الطريق، واستطاع معهم أن يهز مياه بحيرة الحزب الراكدة، ولذلك يجب أن لا ينسى، وهو يستحق ذلك بجدارة.

العدد 1104 - 24/4/2024