أيها المتماوت قم.. أنت تدري كم نحبك!

سئلت مرة: هل في حياتك ما يستحق أن تفخر به؟ فقلت: دون تردد أو شك، نعم، إنني أفتخر بأصدقائي ومعارفي من مثقفين وشعراء وأدباء وكتاب ومفكرين داخل الوطن وخارجه، ومن معارفي الذين التقيتهم شخصياً خارج الوطن الفقيد الكبير الشاعر المقاوم سميح القاسم، الذي لم أعرف في حياتي تواضعاً يعادل تواضعه إلا تواضع الشهيد حسين مروة الذي التقيته أكثر من مرة في دمشق.

من بعض أيادي موسكو البيضاء وعطاياها، أنها وفرت لي لقاء شخصيات لم يكن ممكناً الالتقاء بها في دمشق، من أبرزها الشاعر سميح القاسم، ففي أمسية موسكوفية، ضمت عدداً من الطلبة من دول عربية مختلفة، اجتمعنا بالضيف سميح القاسم، وكان لا بد لي من تقديمه للحضور، من باب المجاملة الرسمية، ببعض الكلمات. تُرى، ماذا سأقول في شاعر حمل من الألقاب والصفات وسجل من المواقف والمواجهات وكتب من القصائد ما لا يجهله متعلم حتى ولو في المرحلة الابتدائية.

كان الموقف صعباً، والتحدي كبيراً، لم تخني الكلمات، لكنني لم أوفق في التقديم عندما قلت: نرحب بالرفيق الشاعر الكبير والمناضل العنيد والإنسان الشفاف سميح القاسم، الذي تعرفونه جيداً.

بعد كلمات الترحيب، تحدث سميح القاسم مستبقاً حديثه بابتسامة معروفة عنه: يا رفيق عاطف.. رفيق.. نعم، شاعر.. نعم، أما كبير.. فمن أين أتيتنا بها؟ وأنت تعلم جيداً أننا كلنا أمام الشعر… إنسان.. نعم، ولكن مناضل؟! فأنا لم أحصل بعد على شرف الارتقاء إلى مرتبة مناضل، قلت شاعر، ورفيق، وأنا في وطن محتل، فماذا تريدني أن أكون؟ أنا شاعر مقاوم وكفى…

أيها الشاعر المناضل والإنسان المقاوم الصلب:

 هل أسمع أوجاع وآلام ابن الناصرة وهو على خشبة الصليب في صوتك، أو أسمع أوجاعك في صرخته (إلهي إلهي لماذا قتلتني). أول أقول فيك ما قلته في رثاء رفيقك معين بسيسو:

أيها المتماوت قم

أنت تدري كم نحبك

كم ابتليت بموت غزة! يا من نثرت سنابل قلبك في التراب، وأورثت صلابة روحك للمقاومة

أيها المتواضع في عزة وكبرياء، البسيط في إباء ومقدرة، الطيب في ليونة وصلابة، المتسامح في عنفوان، المقاوم بلا ادعاء، المنفي في وطنه، المقال من عمله، المحاصر بالإقامة الجبرية، نزيل السجون،طريد أجهزة الأمن، المصاب بقرحة المعدة، مكسور الكتف، محطم القدم، يا بحة الناي، ودوي المدفع، وهدير الدبابة، في الشعر والنثر والصحافة والتعليم.

يا سليل أبي الطيب في قوله:

وإني لمن قومٍ كأنّ نفوسهم

بها أنفٌ أن تسكن اللحمَ والعظما

كذا أنا يا دنيا فإن شئتِ فاذهبي

ويا نفسُ زيدي في كرائهها قدما

فلا عبرتْ بي ساعةٌ لا تعزّني

ولا صحبتني مهجة تقبلُ الظلمَا

كيف جمعت في شخصك ومواقفك وإبداعك بين هملت شكسبير، وتمرد الشنفري ورفضه، وخرجت في سربياتك عن الخط الأفقي، ونسجت قصيداً تتقاطع فيه التفاصيل الصغيرة مع القضايا الكبيرة، كسرب الطيور، وقدمت في كولاجك ما يستحق أن يدرس ويعمم؟!

لم تأكل من خبز أعدائك.. فالخبز خبزك أنت، لا خبز الآخرين، والأرض أرضك أنت.. كما تقول: (أنا عربي، إذن أنا كريم، وخبزي متاح لمن يشاء أن يأكل منه).

تمسكت بثقافتك العربية، وحافظت على نقاء لغتها، وسلامة أوزانها، وصنت تراثها الشعبي، وصغت أساطيرها وموروثها الديني شعراً، وكتبت قصيداً فنياً، فكنت المقاوم في الفكر وفي السياسة وفي الثقافة، موحداً بين القول والفعل، عاملاً على تأصيل هوية عربية فلسطينية إنسانية لأبناء شعبك تحت وطأة الاحتلال وخارجه.

كانت المباشرة الفنية في شعرك تحريضاً تعبوياً ومواجهة صريحة مباشرة مع العنصرية والصهيونية، وسجلت اسمك بحروف من صبر وجلد في تاريخ المقاومة وتقريب الشعر من الناس، وصياغة الشعار السياسي شعراً ملازماً لشعريته.

حدثتنا عن الديمقراطية في الوطن المحتل: هنا بلد المتناقضات، فبوسعك أن تنتقد وتشتم، وتسب الحكومة، ولكن بالقانون نفسه، يمكن للحكومة أن تصادر منزلك وأن تهدمه، فهل رأيتم أفضل من هذه الديمقراطية؟!).

من الصعب أن يغيب لطفك ودماثة طبعك عن ذاكرتي، وتلك الابتسامة كصبح فلسطيني، وهاتيك السخرية المرّة من الجلادين، والرقص على الجراح ما زالت تسكنني، وكم دهشت عندما أرسلت لي رسالة شفوية معتذراً عن عدم نشر المقالات التي طلبتها، لأن البوليس الإسرائيلي قد صادر كل ما حملت من موسكو من أوراق.

مرفوع الهامة عشت، منتصب القامة تمضي، وما يزال المقاومون يرددون معك: عدّ العشرة، تقدموا تقدموا، ويا عدو الشمس لن أساوم، وفي كفي قصفة زيتون

وأنا… من نعشي، أمشي، أمشي، وأقاوم..”

العدد 1105 - 01/5/2024