من القمح إلى الورد… نسميك نرجسة القلب

لا ينفك الرحيل يسائلنا ذات وقت عن أثر شاعر مقاوم بصوته الصارخ في البرية وبحضوره المتجذر في اللغة والأرض والزمان، ما الذي يتبقى لنا نحن من ذهبنا إلى موائدهم العامرة بفرح الشعر وخلاصة مكابداته الباذخة؟ هو إذاً سميح القاسم آخر من ترجل عن صهوة الحياة، ولم يترجل الشعر عن أن يظل النشيد الطويل لنهارات الرامة ودروب القدس العتيقة وأسفار الانتفاضة في مراحلها، هو من ظل كسنديان فلسطين باقياً جذراً دافئاً في رحم التراب المغسول بدم من سبقوا، ولم يكن هو ومحمود درويش وأدونيس، كما ذهب يوماً مترجم شاعر هو عبد الله العذري ليصفهم (بضحايا) الخريطة، هم شهودها وصانعو تراجيديتها على نحوٍ بليغ.

سميح القاسم الذي ولد في مناخات وأجواء متعددة ومدهشة قد أصبح رمزاً من خلال قصائده الحاضرة، تلك القصائد التي عكست عشقه وتوقه لما أسماه يوماً بالمغامرة الفنية ليمارسها بكامل حريته، وهكذا انفتح وعيه الشعري على تلك الدلالات الضافية من الرموز والتنوع فيما بينها سواء أكانت رموزاً دينية أم تاريخية، أي ما بين القرآن الكريم، وأبي ذر الغفاري، وكارل ماركس، وابن خلدون.

هو جامع التناقضات لكنه من أوجد فيها ولها صيغة من التناغم المدهش، والتماهي بين ذاته والآخر في صيرورة شعرية مفتوحة على مطلق الشعر وما تجيزه خيارات الشاعر الأسلوبية من أن لا يكون أسير الشكل فقط.

يقول سميح القاسم: هناك خطأ بصري في الشطر الأول من عمري وأنا أكتب قصائدي بالمقاييس العادية. وعلى الأرجح أن صاحب هذا الاعتراف وهذا البوح لم يكن ليستحضر معياراً لقصائده الأولى العالية الصوت والطابع الجماهيري بقدر ما كان موقفاً يحيل إلى قضية، فكل قضية تصادفه تتفجر من خلال قصائده، فصاحب رسالة إلى غزاة لا يقرأون، وتقدموا، ولا تعدوا العشرة وغيرها من إرث ثرّ في مدونة الشعر العربي الفلسطيني المقاوم كتب أول عمل شعري في قلب الانتفاضة الفلسطينية ليستلهم منها إيقاعاته، كإيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطي والشظايا التي تطايرت حوله، وإيقاع الشارع والمظاهرة، ورائحة الغاز المسيل للدموع الذي يتجلى في قصائده الأولى التي امتازت بمناخاتها الكلاسيكية والمطعمة بانخطافات السريالية، وأقانيم من الواقعية الاشتراكية.

هي حرية الشاعر إذاً الذي ارتبط اسمه بشعر الثورة والمقاومة في أراضي الـ 48 في أن يقول ما يريد ليكون (في مواكب الشمس، دمي على كفي، سقوط الأقنعة) ومنها تفجرت القصيدة الثورية في ستينيات القرن الماضي سبعينياته، لتتحول إلى أغنيات رددتها الشفاه بكبرياء عال واعتزاز عميق (منتصب القامة أمشي) وسواها، وهو من اختار أن يظل في فلسطين شاهداً على لحظات وجودها ومقاومتها بكل الوسائل الممكنة، لكن وسيلة الشاعر لغته من تقدمت لتظل على الثغور نشيد الأناشيد، وأيقونة الحماسة وصولجان الغضب الساطع.

فالشاعر كما قال يوماً أحمد عبد المعطي حجازي هو رئة الجماهير والثورة والقاسم المحرض لشرارة الغضب الفلسطيني والعربي النبيل، لم يذهب أبعد من ذلك في اختلاف المناخ وفوضى الفضاء الحزين، ولم يرد المكوث بوصفه كاملاً غامضاً أو واضحاً ناقصاً، فهو لم يُرد سوى أنه لا يريد.

ولطالما كان يردد على الدوام: هملت العربي أنا/ فوق جرف الهواء أنذا واقف/ والمدى ورق موغل في البياض/ إلى غيمة من حرير السموات والأرض/ قليلاً إلى شرفة الله.

ليندلق الزنبق وينداح ندى البيلسان ويغسل ماء الورد ورد الدم، فتضوع بعطرها حشاشة النعناع.

لم يكن سميح القاسم في سيرته ومسيرته إلا ذلك النسيج وحده من جرأت قصائده على سياج الوقت والملح والأزمنة والعدو واليأس، ليكتب قصيدة الحياة مبرأة من أشواك الطريق ومشرئبة القوام الجميل الذي يحتفي ببراءة الصوت وطزاجة اللحظة وبلاغة الحالة، ليصوغ ذلك كله خطاباً تألفه الأذن وترنمه الحواس في ترجيعاته الكبرى، لتكتب الملحمة بإيقاع خالص يجسر ما بين العين والرؤية وصلابة القلب وبؤس الاحتلال، وبلاغة اليوميات الفلسطينية العصية على النسيان، يدون الشاعر كل لحظاتها وهو الذي يطل عليها من وجع التراب وأنين السنابل ناحل الحنين، إنه الباقي هناك حارس الأبدية من ابتكر في (سربياته) شكلاً جديداً للقصيدة لتتعدد مواجعها وتنفتح في دلالات من التاريخ والحاضر والمستقبل والرمز والأساطير والمدونات التراثية في نسيج درامي بات العنصر الجوهري والأساسي في أعماله الشعرية كافة، في قصيدة طويلة بعنوان (خذلتني الصحارى): كامل وجهك الآن/ أبصره كاملاً/ بأدق تفاصيله/ بالوضوح المسمى بلوغاً/ أرى وجهك الآن/ أشهق في بهرة النور/ أخفى رويداً رويداً/ يغيبني عن مقامي القديم/ ضباب البخور/ وأوغل في المسك/ أفلت من لعبة الأرض والجاذبية/ لا بأس، طال مكوثي/ على الأرض لا بأس/ هأنذا الآن يطلقني الحزن قيده الدنوي/ مودعاً فيك ما ظل فيّ/ بادئاً حيث كان ابتدائي/ قلت في أول الأمر/ هذا جنوني النظيف/ وهذا جموح الفتى.

في هذه المناخات من سربياته تبدو القصيدة بإيقاعاتها الحادة وألوانها الزاهية القوية وهي تتحول إلى حالة من التداخل الإيقاعي-اللوني ما بين خفوت الصوت بعض الشيء واقتحام ألوان الشك المواقع اليقينية المطلقة.

وما بين قصائده الأولى واللاحقة، خط سري طابعه تفاوت أدوات التعبير، بتفاوت الزمن والتجربة والتراكم المعرفي والوجدواني المحكوم على الدوام بهاجس الحرية والعدل الإنساني وما تتيحه الذات الشعرية في وعيها لتفجير اللغة لتحيلنا إلى أشكال حداثية لا تتنكر للماضي ولا تتقزم أمام حداثة الآخر الغربي، لتكون هي ذاتها من خلال التجربة المديدة وبميراثها من الحب والحنين، وما تتيحه قدرة الشاعر على (تحديث الجناس) حمل قصائده إلى أن تكون مركبات سيكلوجية تقرأ من داخلها، ومن داخلها تقرأ حركة الشعر ومنسوبه وعلاماته الفارقة، ليس لحيازة الموضوع -التيمة- فحسب بل للماهية الشعرية وتجلياتها ومدى ما عكسته ثقافة الشاعر المؤسسة على فهمه للحداثة والتراث والثنائيات الفكرية كيف أضحت في قصائده حركية للشعر وتلقيه بآن.

ذلك الذي سمع يوماً مغني الربابة في بيت جده، راح يشبّ عن الطوق ويكون قيثارة الشعر وغنائيته العالية، منذ أن تصور أن لديه الصيغة السربية أو المطولة التي ابتدأها بقصيدته (إرم) التي تقوم على التداعي ولا تقوم على وحدة الشكل، وهكذا تتعدد الحالات واللمحات والإيقاعات والأشكال.

لكن صاحب (إنها مجرد منفضة) توسل أن يكتب شيئاً من سيرته بروح الدعابة والتهكم، وتلك الروح الساخرة التي عرفت عنه هي من وقفت طويلاً خلف نصوص بعينها ليرمم صوراً في الذاكرة قديمة. يقول الشاعر: وها أنت منهمك بضرورة الاستعداد للحياة وضرورة الاستعداد للموت، لكنك مؤمن بأنه لابد من فرج قريب، بقدر إيمانك بأنك من حياة إلى موت، ومن موت إلى حياة، ومن رحيل إلى رحيل، ومن تراب إلى تراب، ومن ماء إلى ماء، ومن رماد إلى رماد، ومن قمح إلى ورد، ومن كل شيء وأي شيء إليها إلى المنفضة فما هي إلا منفضة، إنها منفضة مجرد منفضة.

وهو من قال: طعام الشهيد يكفي شهيدين/ يا أمنا الريح.. يا هاجر المتعبة/ أعدي الطعام القليل لأبنائك العائدين على عربات المنافي/ قومي افرشي للضيوف الأحبة كوفيتي/ إنهم متعبون جياع/ أعدي لهم وجبة من بقول الخراب/ أعدي كؤوس العذاب/ وإبريق احزانك المرعبة/ سيجمعنا الخبز والملح عما قريب.

ذهب ذلك الواضح الكامل وقصائده مازالت غناء أوقاتنا وأرواحنا وحبات قمحنا وارتعاشات وردنا، ذهب سميح القاسم إلى الذي لم يخفْه ولم يحبه في آن، لكن ارتجالات الموت وحدها من تذهب حافية، ويبقى الشعر في بيانه المقاوم وبما تبقى منه للأحياء مردداً: زارنا طيفك ذات شعر أصبح وطناً، لنصبح على وطن على هيئة الشعر المقاوم، ونصبح على شعر تقحم أزيز الرصاص وجرب من الحياة ما قسم له.

سميح القاسم.. نسميك نرجسة قلوبنا!

العدد 1104 - 24/4/2024