أحلام تتحطم على صخرة القبول الجامعي

ما يكاد طالب الشهادة الثانوية ينهي امتحانه ويتنفس الصعداء، حتى يقع في شراك اتخاذ قرار تعتمد عليه حياته برمّتها، فما بين ما يريده هو وما يتيح له مجموع علاماته وما يريده أهله.. تضيع آماله بين خيبةٍ أو حيرة..

فلكل شخص حلم يولد في خلده منذ طفولته، يكبر معه ويبني عليه مزيداً من الأحلام، وعندما يصل إلى العام الذي يتوجب عليه أن يحدد فيه مصيره والفرع الذي يريده، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالأمر لا يقتصر على أولئك الذين لا يتمكنون من تحصيل مجموع يتيح لهم أن يدرسوا الفرع والاختصاص الذي يريدونه أو الذي يجدون ميولهم فيه، بل الأمر نفسه يعانيه من يحصل مجموعاً أعلى مما يطمح به!

فمن الصعوبات ظهور ثقافة اجتماعية تستوجب الاحترام لهؤلاء الذين يدخلون فروعاً عالية، بحيث يتم التمييز بين علمٍ وآخر، وكليّة وأخرى، وبالتالي بين شخص وآخر ما يجعل حلم الجميع أن يدخلوا كليّة الطب! ومن سلبيات هذه الثقافة الاجتماعية أولاً أنها تقضي على الإبداع، بحيث لا يعود بإمكان الطالب إلا أن يدخل أعلى ما يُتاح له بحسب المفاضلة العامة.. لا ما يجده مناسباً له.

أما ضررها الآخر فهو ما تتسم به هذه الثقافة من زرع الخيبات في النفوس، فبدلاً من خلق روح تنافس النجاح في الفرع الذي يدخله الإنسان الذي يحبه، يصبح التنافس على دخول كليّات محددة، وهذا ما يحطم همم الطلاب وأحلامهم، إذا لم يستطيعوا أن يدخلوا تلك الفروع من أجل الظهور الاجتماعي فقط حتى وإن كانت بعيدة عن ميولهم..

وقسم آخر يسعى وراء مجالاتٍ معينة ولكن معدلاتها عالية للغاية بحيث تُسحق أحلامهم، مع العلم أن الصف الثالث الثانوي بات غير قادر على تحديد مستويات الطلاب بدقة، فهو يعتمد على الظروف والحفظ البصم أكثر من الفهم!

قامت (النور) بتحقيقٍ حول القبول الجامعيّ وما يعانيه الطلاب..

ابتدأنا من نور هزيم، وهي طالبة في سنتها الأولى في كليّة الاقتصاد، التي لم تستطع أن تقتنع بفرعها رغم مرور عام على دخولها فيه، وقالت:

(نجحتُ في امتحان القبول في كليّة الهندسة المعمارية وقد كنتُ في قمة الإبداع لأن هذا الفرع هو ما ينتمي إليّ وهو ما أحبه وأدرك تماماً أني سأتميز به، لكن عند ظهور نتائج المفاضلة الثانيّة خاب أملي كثيراً فما فصلني عن حلمي علامتان فقط! عائلتي في هذه الظروف لم تتمكن أن تحقق لي حلمي بالتسجيل الموازي أو الخاص، فالحالة باتت في غنىً عن التعريف.. ومنذ عام إلى اليوم، كلما رأيتُ طالب هندسة أشعر بقلبي ينفطر وأعود إلى البكاء مع العلم أن المفاضلة في العام السابق كانت تتيح لي دخولها، فبأي حق يدخلها غيري وأنا لا أستطيع؟).

أما ياسر أبو عرفة وهو طالبٌ في كليّة الطب البشري فقد حكى عن معاناته أيضاً:

(لقد كنت مجتهداً منذ الصف الأول، لكن لم أكن أدرك أن هذا الاجتهاد سيكون نقمة عليّ! لقد قررت في الصف الثالث الثانوي أن أحصّل أعلى درجة من العلامات بحيث تبقى خيارات جميع الفروع أمامي مفتوحة، فلا أندم على شيء وأختار الذي أحب.. علماً أنني أحب الرياضيات والفيزياء ووددت الدخول إلى كلية الهندسة المعلوماتية، وما إن علمتُ أني قد حصّلت المجموع الذي يحتاجه الطب البشري حتى انهال عليّ لوم أهلي وعائلتي وأصدقائي من قراري دخول فرع غير الطب واصفين ذلك بأني أنكر النعمة.. وإذا بي تحت ضغطهم أنصاع إليهم وأدخل كلية الطب.. وأنا الآن أشعر بجحيم حقيقيّ، فأبعد ما كنت أفكر فيه أن أقضي عمري بين مريض وآخر ومأساة وأخرى!!).

في حين قالت حنان الجميل، وهي ترغب في دخول كليّة الإعلام لكنّ أهلها يعارضون رغبتها:

(في كثير من الأحيان يغدو لرأي الأهل الدور الأكبر، أنا أريد الإعلام لكن عائلتي تجده غير مناسب، ويتساءل أبي ما الذي قد يقوله عنه الناس إن دخلت ابنته هذا الفرع!، فإلى متى سنبقى نفكر بهذه الطريقة؟ وإلى متى سنربط حياتنا والمجالات التي نحبها بأقاويل الناس؟! ومن قال إني أحب الصيدلة ؟ أو الهندسة المدنية ؟ ولكن في مجتمعنا لا بأس أن يدخل الإنسان فرعاً لا يحبه ولا يبدع فيه مادام هدفه أن يظهر اجتماعيّاً أو ماديّاً، لا تحقيق إبداع وإنجازات!)

ورأى الكثيرون أن السياسة التعليمية تميل إلى أن تظلم الطلاب لا أن تحدد مستوياتهم، آخذين بعين الاعتبار تجارب دول أخرى، كتلك الدول التي تعتمد على نظام الفصلين والتى رأوا فيها قدرة أكبر على تحديد مستويات الطلاب لأنها لا تعتمد على ظروف واحدة وتتيح فرصة أخرى للتعديل، أو تلك التي تعتمد على تحديد الخيارات قبل التقدم للبكالوريا إن كان محباً للفروع الهندسية أو الطبية أو الفنية أو الأدبية بحيث يحصر الإنسان نفسه في المجالات التي يهواها فلا يدع طريقاً للندم أن يدخله..

وفي شأن السياسة التعليميّة تناولت (النور) بعض الآراء..

فقد قالت سمية الذهب، وهي طالبةٌ تنتظر نتيجة المفاضلة:

(لقد كنتُ طوال العام من أكثر المجتهدات، لكن الضغط الذي تعرضت له أثناء الامتحان والإرهاق الشديد شتتاني، فعدا صعوبة الطريق، والتوتر حتى وصولي إلى المركز الامتحانيّ، كان لضغط برنامج الفحص التأثير الأكبر!

ففي السياسة التعليميّة الجديدة أصبح قبل كل من امتحان العلوم واللغة العربية والرياضيات يومان فقط! ولا مجال للنوم قبل امتحان التربية الوطنية وكذلك اللغة الفرنسيّة!)، وتساءلت: أي دول في العالم تمارس مثل هذه السياسة التعليميّة من إرهاق الطلّاب وتحطيمهم؟.

أما محمود المصري فقد تحدث بحسرة عن رأيه: (كثير من الدول تعتمد على نظام التصحيح الإلكترونيّ، باعتباره أقدر على المساواة!، أما عندنا فالأمر يعتمد على مزاج المصححين، بعضهم يتهاون ويعضهم يتشدد.. وبعضهم لا يركز في تصحيحه ليصبح في النهاية للحظ دور كبير في تحديد المستويات.. وأحياناً يتم تغيير سلم التصحيح دون العودة إلى الأوراق التي صُححت!، فالأمر قد لا يغدو مهماً لدى المعنيين بوضع المفاضلة باعتبار أنهم ينظرون إلى الأمر ككل ودون اعتبارات شخصية.. لكنهم لا يدركون أن أحلام الكثيرين ستتحطم).

في حين قالت مدرّسة العلوم الآنسة أمل صالح:

(باتت البكالوريا تشكل عقدة عند الطلاب.. إن مجرد الضغط الكبير الذي يخيّم على الطالب كفيل بجعله غير قادر على التركيز.. وللأمر أسباب متعددة، منها اجتماعيّة ومنها تعليميّة،.. وشروط القبول الجامعيّ تغدو أقسى يوماً بعد يوم وهي بحاجة إلى خبراء يصنعون طريقة جديدة ومبتكرة لعملية اختيار الفروع.. بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى، ففي ألمانيا مثلاً كل طالبٍ يتحمل مسؤولية صعوبة الفرع الذي يدخله، لكن الفرق بأنه لا يوجد لديهم تفرقة بين العلوم المختلفة، فلكلها أهميّة.. اجتماعيّاً أو حتى ماديّاً، كوفرة فرص العمل بشكل متكافئ لمعظم الفروع، وهذا بحدّ ذاته يعطي راحةً ويجعل الإنسان قادراً على الدخول إلى المجال الذي يحبه دون أي ندم، فيبدع فيه ويحقق التطور!!).

وبشأن بعض الحلول أخذنا رأي موّجه أول في وزارة التربية فقال:

(لماذا لا يتم تخصص الشهادة الثانوية من الأساس؟ فالذي يرى أن لديه ميولاً كبيرة  إلى الفروع الطبيّة، يدرسها بشكل أساسي، إضافة إلى بعض مواد العلوم البحتة كالفيزياء والرياضيات ولكن بدرجة أقل من أولئك الذين يرغبون في الهندسات مثلاً ولا يجدون أنفسهم قادرين على التعامل مع الكيمياء أو العلوم، وبذلك يمكن جمع المبدعين في كل مجال.. ولكن في وقتنا الحاليّ الذي يريد دخول كلية الطب مثلاً يحتاج أن يكون ملماً بكل تلك المواد.. مما يجعله يلجأ للحفظ البصم، أما في الطريقة التي اقترحت فالفهم أكثر أهميّة، وهذا حقاً ما نحتاجه!)

تتشعب الآراء، لكنها تتفق على وجود شرخ لا يمكن إنكاره يجعل من اختيار الفرع المناسب عذاباً ومرارةً، بحيث تتحطم أحلام الكثيرين، وينمو اليأس في قلوبهم يوماً بعد يوم إن لم يُتح لهم دراسة الاختصاص الذي يحبونه..

ولذلك فإنّ المطالبة بإعطاء الحلول الملائمة أصبحت أكثر إلحاحاً، إلا أن ذلك محفوف بالصعاب ولا أحد قادر على إنكار هذا.. لأن القبول الجامعيّ أصبح أمراً لا مفرّ منه  تعود الناس على أن يتعاملوا معه منذ أجيال بهذه الطريقة، وكي نخطو إلى الأمام يجب أن تكون هنالك جهود حكوميّة ودراسات معمقة مع أخذ آراء جميع الفئات المعنيّة ومشاركة الطلاب معاناتهم لمعرفة جوانب الخلل وكيفيّة إصلاحه.

العدد 1105 - 01/5/2024