في صمود غزة ومؤشرات هزيمة العدوان

يسجل اليوم الثلاثون للعدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، هو ليس العدوان الأول ولا الثاني، إنما يندرج هذا العدوان في إطار السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى تركيع القطاع الصامد، بعد محاصرته براً وبحراً وجواً، ومحاولات عزله عن محيطه. وينظر إلى هذا العدوان في سياق التعاطي مع غزة المحررة ميدانياً، رغم أنف الاحتلال، ومحاولة استمرار عزلها، وإجبار سكانها على مواصلة حياتهم، في ظل احتلال غير مباشر يؤكد ويفعل فعله في ميادين الحياة اليومية، من الكهرباء والماء إلى الحركة والتنقل.

لم يشفع لغزة تحررها، واضطرار إسرائيل سحب قواتها ومستوطنيها من أراضي القطاع، إذ ظلت تمثل شوكة في حلق الإسرائيليين وقاعدة للمقاومة الوطنية الفلسطينية، والتصدي للاحتلال وسياساته. وشكلت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزة عنواناً للمعادلة الفلسطينية – الإسرائيلية وللصمود البالغ التكلفة الذي دفعه ومايزال يدفعه سكان القطاع.

ويمثل العدوان الأخير حلقة في سلسلة التعامل الإسرائيلي مع غزة، ومع الوضع الفلسطيني عموماً، تماماً كما شكل التصدي الغزاوي عنواناً للمواجهة الفلسطينية مع السياسات العدوانية الإسرائيلية وتبعاتها.

وينظر في هذا الإطار إلى تطلعات حكومات تل أبيب المتعاقبة والهادفة إلى تجريد القطاع من مقومات حياته المستقلة وصموده ومقاومته، ونزع سلاح سكانه، وتحويله لقمة سائغة يمكن هضمها بسهولة وفق الأجندة الإسرائيلية دونما مقابل. في الوقت الذي يتعاطى فيه سكان القطاع مع مقومات صمودهم بوصفها أحد مستوجبات التحرر النهائي الذي يفترض أن يكتمل مع فك الحصار الجائر المفروض عليهم، وتأمين مستلزمات الحياة الحرة المستقلة فعلاً.

أرادت إسرائيل من عدوانها الجاري كسر هذه المعادلة، القائمة بحكم الواقع، وفرض الشروط الإسرائيلية على القطاع (المحرر)، مستفيدة من عوامل عديدة فلسطينية داخلية، ومن واقع عربي متردٍّ ومتهالك، ومن حالة دولية غير متوازنة، ويرد الفلسطينيون على هذه المعادلة بصمود أسطوري وتجربة وخبرة نضالية اكتسبوها، ومن إصرار على التحرر الفعلي والكامل من تبعات الاحتلال وحصاره اللا إنساني.

وأظهرت أسابيع العدوان، حتى تاريخه، واقع طرفي المعادلة، وفي الصدارة موضوعة الحصار وضرورة الخلاص منه، ومستلزمات الصمود والدفاع عن الذات، ويدفع سكان غزة ثمن هذا الحق، في ظل احتلال فاقع وهمجي، وفي إطار المعادلة الثنائية والإقليمية والدولية.

لم تستطع إسرائيل بجبروتها خلال أسابيع العدوان ورغم تبعاته الكارثية إحداث خلل في معادلة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الغزاوي (تدمير البنى العسكرية، إضعاف المقاومة، شل قدراتها.. إلخ)، وأظهرت هذه الأسابيع جملة من الحقائق، بدءاً من تظاهرات الفلسطينيين الحاشدة في أراضي الـ،1948 إلى مؤشرات الانتفاضة في الضفة الغربية، مروراً بالتضامن الشعبي العالمي الواسع، والردود الرسمية  المنددة بالعدوان في الكثير من الدول، مقابل فشل سياسة العدوان في تحقيق أهدافها، رغم تكلفته الدامية، واضطرار إسرائيل مجدداً ومرة أخرى، إلى البحث عن صيغ للتهدئة أو الهدنة أو وقف النار، وما يحدثه ذلك من إرباك في القيادة السياسية الإسرائيلية، بعد الإخفاقات في خطط القيادة العسكرية.

عكس صمود غزة وفلسطين بأسرها، نفسه على مكونات الحالة الإسرائيلية، وأظهر نقاط ضعفها، وما تعانيه من تخبطات في سياق التعاطي مع غزة عنواناً وفلسطين أساساً.

وكما يعقب كل خيار عسكري أو يتزامن معه، اقتراحات ومبادرات ومتطلبات الحل، فإن إصرار غزة على حل نهائي لأسباب هذا العدوان ومنع تكراره، مستندة إلى صمودها ومقاومتها، يفرض نفسه على أية مبادرة، وبضمنها المصرية، وما رافقها من (جهود) إقليمية وأمريكية و(دولية) تأخذ بالحسبان واقع الصمود والمقاومة وأهدافها المشروعة.

وفي هذا السياق ينظر بتقدير واهتمام إلى الوفد الفلسطيني الموحد، الذي وصل إلى القاهرة، ويناقش المبادرة المصرية، واقتراحات تطويرها، لتشمل متطلبات فك الحصار الجائر، والخلاص من تبعات الاحتلال غير المباشر، ومنع تكرار العدوان أولاً.

وإذ يستند الفلسطينيون في طرحهم هذا على عدالة موقفهم، وإلى التأييد الفلسطيني العارم في مثلث الوجود الفلسطيني (أراضي 48 أراضي67 أقطار اللجوء والشتات)، ويدفعون غالباً ثمن ذلك كله، فإنهم يدركون أيضاً التبعات السلبية للمغامرة الإسرائيلية الجديدة ضدهم في أوساط الإسرائيليين وقيادتهم السياسية – الحكومية أولاً.. كذلك في انفضاح هذه السياسة الرعناء دولياً، واتساع المواقف الشعبية ضدها، وصولاً إلى حجم الإحراج الذي يسببه هذا العدوان لأصحاب المواقف الرسمية العربية المتهالكة، وتبيان نفاقها في تعاطيها مع القضية المركزية العربية المفترضة، التي عادت بفضل صمود غزة وشعب فلسطين إلى الواجهة، رغم سنوات الخريف العربي وتبعاته الكارثية.

تناور حكومة نتنياهو للوصول إلى أقل الخسائر التفاوضية، ويدفع الفلسطينيون دمهم وحياتهم في إصرارهم على وقف إطلاق نار مشرف، يمثل خطوة نحول حل إشكاليات غزة جميعها، وفي مقدمتها الحصار اللاإنساني، ويؤكد الشعب الفلسطيني تماسكه ووحدته في مواجهة العدوان، وفي سبيل حل عادل لجزء أساس من قضيته الوطنية المتمثلة في الحرية وعودة اللاجئين وتقرير المصير والدولة المستقلة.

العدد 1104 - 24/4/2024