الترجمة.. بين الإبداع الفكري والمفهوم الإيديولوجي

يقول الجاحظ: (إن الترجمات لا يمكن مطلقاً أن تغني عن النص الأصلي لأن ذلك يفترض أن فهم المترجم هو في درجة فهم الذي يترجم عنه، فمتى كان ابن البطريق وابن النعامة وأبو قرة وابن فهر وابن وهيلي وابن المقفع مثل أرسطاطليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟ إن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل. وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه؟). (1).

فما هي الترجمة؟ وما هو دورها الحقيقي في بناء النسيج الثقافي والإيديولوجية الفكرية للأدب معاصراً كان أم تراثاً؟

يبدو السؤال للوهلة الأولى بسيطاً ومربكاً في الوقت نفسه، لتعدد الأجوبة عنه، وعلى الأخص في ظروف الانتشار والهيمنة التي تؤشر إليها الحضارات الغربية، ذلك أن أية محاولة محاولات للإجابة عنه يجب أن لا تقتصر على اعتبار الترجمة مجرد تقنية لغوية، بقدر ما تضطرها كذلك طبيعة العلاقات المتبادلة بين مجتمعي النص المترجم عنه (النص المصدر) والنص المترجم إليه (النص الهدف). وهكذا فإن أي تعريف لمفهوم (الترجمة) لا بد أن يتسع ليشمل الجدليات الحية للثقافة وآفاقها المتعددة كفعل إبداعي، ونشاط لغوي، وضرورة حضارية وموقف إيديولوجي، فإضافة إلى كونها تعتبر نشاطاً لغوياً، فهي تعد أكثر الممارسات اللغوية تعقيداً لما تتطلبه من مهارة تَمثُّل النص المترجم تَمثُّلاً مُدرِكاً لخصائصه الثبوتية وقراءته الثقافية.

وهكذا فإن الترجمة موقف إيديولوجي قبل أي شيء آخر، يقوم على اعتبار أن النص المترجم إنما هو تجسيد لثقافة بعينها، ولرؤية محددة إلى العالم، وهو ما يفرض أن تسمح بحرية التعبير عن الذات وأن تستند في الوقت ذاته إلى حرية التعرف على الآخر، إلا أن الترجمة لا يمكن أن ينظر إليها على أنها عمل عفوي أو ظاهرة حيادية، ذلك لأنها إنما تعتبر اختياراً حضارياً يدل على موقف إيديولوجي محدد سواء بالنسبة إلى موضوع المترجم أو الطريقة التي ينقل بها من لغة إلى أخرى.

يقول (روجيه أرنالديز):

(إن تأثير الترجمات كان حاسماً، ولكن إذا كانت الفلسفة قد ولدت، فلأن معظم المترجمين كانوا باحثين مبتكرين وأصلاء، فالطابع الشخصي للمترجم كان في الغالب مرافقاً للنص المترجم عن طريق التعليق والشرح، فقسطا بن لوقا استخدم اللغة التقنية للفلسفة الناتجة عن خبرته في الترجمة من أجل أن يقدم عملاً شخصياً مطبوعاً بطابعه، وقد أبان قسطاً بن لوقا عن حذق كبير في التحليل والتركيب، وعرف كيف يستعير من مختلف العلوم ما يلزمه لمعالجة موضوعه وإضاءته).

فترجمات نص ما هي ما يشكل (تاريخه) ولكنه تاريخ ينطوي على صراع واختلاف، وما ترمي إليه النظريات التقليدية عن الترجمة هو اختزال هذا الاختلاف (اللغوي والثقافي والإيديولوجي) ورده إلى وحدة. جلّ المسائل التي تطرح عادة بصدد الترجمة تطرح بغية قهر الاختلاف، في حين أنه لولا الاختلاف والتعدد لما كانت الترجمة ضرورية ولا ممكنة.

هناك ترجمات لأن هناك ثقافات ولغات، وما الترجمة إلا عمليات التحويل اللامتناهية لتلك الثقافات وتلك اللغات، ذلك أن الترجمة لا يمكن أن تقوم إلا  بوصفها عمليات تجديد وتأويل فهي لا تهدف، كما يقال عادة، إلى أن تكون نسخة طبق الأصل، إلى أن تطابق الأصل، إلى أن تكون الآخر ذاته. الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق وإقحام الآخر في الذات، إنها ما يفتح الثقافة، واللغة على الخارج، ما يفتح النصوص على آفاق لم تكن لتتوقعها ولا تتوخاها، إذ بفضل التحويل فإن كثيراً من المؤلفات تكتسب أهمية تعجب لها اللغة التي كتبت بها في البداية، وهكذا، كما يقول بلانشو (يعجب الفرنسيون للتأثر الذي أحدثه كتابهم الواقعيون (خصوصاً موباسان) على كتاب أجانب يظهرون أبعد ما يكونون عن الواقعي. وهكذا نتعجب عندما نعرف أن فلوبير كان معلماً لكافكا).

إلا أننا ينبغي أن نفهم التحويل هنا في اتجاه واحد. الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله تحول في الوقت ذاته اللغة المترجمة. ويمكن أن نتذكر هنا ما حدث للكتابة باللغة الفرنسية عندما تفتحت على الأدب الأمريكي وأخذت تترجمه. ويكفي أن نذكر ما قاله سارتر عن الغريب (لكامكو) من أنه (كافكا) وقد كتبه (همنغواي) فليست الترجمة إذن، هي ما يضمن حياة النص المترجم ونموه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن حياة اللغة والفكر ونموهما وتكاثرهما. وربما لهذا السبب فإن أزهى عصور الفكر غالباً ما تقترن بازدهار حركة الترجمة. بهذا المعنى تكون الترجمة، لا علامة على تبعية ونقل وتجمد وموت، وإنما انفتاح وغليان وتلاقح وحياة توافق بيئة النص المترجم وإشكاليات التطبيق.

 لقد انتبه الماركسيون العرب إلى أن ترجمة الماركسية، وإن تكن خطوة ضرورية، لن تستطيع بحد ذاتها أن تجيب عن أي سؤال من أسئلة الواقع العربي، ومن هنا كان رفعهم لشعار تعريب الماركسية، على نحو ما كان الصينيون قد قاموا بتصيين الماركسية، ولكن تعريب الماركسية بقي مع الأسف مجرد شعار نظري، ولم يتمخض عند التطبيق إلا عن بعض الدراسات التي تناولت، بوجه خاص، علاقة الماركسية بالقومية وبالمسألة الكولونيالية، وبديهي أن العجز عن تعريب الماركسية لا تتحمل مسؤوليته الماركسية نفسها، وأمن الأنتلجانسيا العربية، فالشقّ المُتمَركِس من هذه الأنتلجانسيا لم يبرهن على درجة من الخصوبة الفكرية أرقى من تلك التي برهن عليها الشق غير المُتمَركِس، على الرغم من ادّعاء الماركسيين بتفوق منهجهم جوهرياً على المناهج الأخرى، وعلى الرغم أيضاً من أن المنهج الماركسي كان استعاد بالفعل، على الصعيد العالمي، بعضاً من خصوبته في أعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، وقولنا بأن الماركسية بقيت بالإجمال، على الصعيد العربي، مترجمة وغير معربة، لا يعني بطبيعة الحال أن كل ما ترجم من الماركسية قد ذهب أدراج الرياح، فقد يصدق مثل هذا الحكم على الشق الإيديولوجي الصرف، ولكن بعض الكتابات المترجمة التي تتعلق بالتاريخ مثل دراسة مكسيم رودنسون عن (الإسلام والرأسمالية) أو دراسة غودولييه (وآخرين) عن نمط الإنتاج الآسيوي أو التي تتصل بوجه خاص بالجماليات والنقد الأدبي مثل كتابات لوكاش وغارودي وغولد مان وكذلك تروتسكي في كتابه الثر (الأدب والثورة)، تحافظ على راهنية مستديمة فضلاً عما كان لها من امتدادات عربية خصبة سواء في مجال التاريخ أم النقد الأدبي.

وهكذا فإن الترجمة ليست مجرد كلمة تنتقل من لغة إلى أخرى، عبر فرد أو جماعة، بل هي، بطبيعتها، طاقة حية ذات قدرة هائلة على تحويل المجتمع بسرعة إذا عرف كيف يستخدمها. الترجمة ليست كلمة منقولة بل فعل حضاري، دينامية قوى متعددة الوسائل تتحرك باستمرار باتجاه موقع الفعل والتغيير، وهي من حيث المبدأ تعبير مباشر عن القوى الدينامية في مجتمع معاصر بات، لشدة شموليته، يتبدل أمام أعيننا كل يوم، وما المذياع والتلفزيون والكمبيوتر والصحيفة والكتاب والآلة وغيرها سوى الآلات اليومية الحديثة التي تترجم بجميع لغات العالم الحية كل أشكال الإبداع الثقافي المعاصر.

وفي هذا السياق، فلا بد من الوقوف ملياً عند الدور الذي لعبه المستشرقون في مجال الحوار العربي – الأوربي، فترجمت أعمال لكثيرين منهم إلى العربية وساهمت مؤلفاتهم في تعميق البحث العلمي العربي المعاصر وخاصة في مجال العلوم الإنسانية.

العدد 1107 - 22/5/2024