الرواية ومقاربة اغتراب الفرد وكوارث التهميش.. قراءة في رواية «غريب» للتركي يعقوب قدري أوغلو (1889 – 1974)

حظيت مسألة اغتراب الفرد عموماً واغتراب النخب خصوصاً عن الواقع اهتماماً واسعاً لدى الكتاب والنقاد، ودار الجدل حول إلقاء المسؤولية عن كوارث الحروب والإفقار المنهجي وتردي أحوال الريف وأطرافه النائية على الدائرة الضيقة في مركز القرار، أو على الأعداء الخارجيين، أو على النخب الغارقة في العزلة والمساجلات الفسطائية، أو على البسطاء أنفسهم المكبلين بقيود الأمية والنمطية والطقوسية والاستلاب. ونجحت روايات عديدة في إلقاء الضوء على هذه المسألة الشائكة ومن بينها روايات (الجرذ) لغونترغراس، و(العمى) لخوسيه ساراماجو، و(السمكة الذهبية) لجان ماري لو كليزيو و(ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ و(الربيع والخريف) لحنا مينه. و(غريب) ليعقوب قدري أوغلو. وهذه مقاربة لهذه الرواية التي أثارت جدلاً بين النقاد والمثقفين منذ صدورها حتى اليوم، داخل تركيا وخارجها.

ولد يعقوب قدري قره عثمان أوغلو في القاهرة عام 1889 وعمل أبوه في قصر إبراهيم باشا، وكان جده والياً على منطقتي آيدن ومانيسا اللتين أصبحتا حالياً ولاية صاروخان. عاد إلى تركيا وهو في السادسة عشرة واستقرت أسرته في أسطنبول، وزّع اهتمامه بين التصوف والدفاع عن الأدب الحديث.

أثرت حرب البلقان والحرب العالمية الأولى على أسلوبه، ومشاهداته في مناطق الريف المفقرة في كوتاهيا وسيما وكويز وأسكي شهير وسفاريا جعلته مدافعاً عن حقوق المعدمين، كما ساهمت الصحافة والسياسة في صقل خبراته، ونشاطه الدبلوماسي والنيابي منحه حصانة مكّنته من طرح آرائه بجرأة.

أصيب بالسل، وسافر مرتين إلى سويسرا للعلاج،  وعمل سفيراً لبلاده في كل من طهران وبراغ ولاهاي وبرن، وانتخب مرتين نائباً في البرلمان التركي عامي1931 و1961.

كتب الرواية والقصة والمسرحية والسيرة، وأسس صحيفة (كادرو) عام 1932 ونشر في العام نفسه روايته غريب (يابان) التي طبعت مراراً وأثارت جدلاً واسعاً بين النقاد، وقد ترجمها إلى العربية فاروق مصطفى، وصدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب بوزارة الثقافة في دمشق عام 2007.

أحداث الرواية تدور عشية أحداث حرب البلقان التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ومهدت للهزائم المتوالية التي لحقت بالجيش التركي، وأظهرت انحلال السلطات الحاكمة، وهيأت لصعود تيار تحديث تركيا، وصعود نجم مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.

فيرا ضابط أبتر، فقد ذراعه في الحرب، وعاد إلى قرية نائية مع زميله الرقيب بكير، وأقام فيها، ولاقى الاهتمام والرعاية من الريفيين حيناً، وشعر أحياناً بصعوبة التكيف مع نظرتهم إلى شخص غريب عن القرية، وضحية حرب، كثير التساؤل عن أخبار السلطة في أنقرة، وأسباب ضعف اهتمامها بالمناطق المفقرة، وبحاجات الفلاحين المعدمين، وهو محب للكتب، ومتابع للصحف، وصاحب نظرة نقدية لتوجهات القادة المدنيين والعسكريين، ولأوهامهم بأن العدو بعيد والخطر لا منفذ له.

سجل فيرا مشاهداته وتجاربه الحلوة والمرة في دفتره، ورأى بأم عينه متاعب الريفيين والريفيات، الفلاحين والحرفيين والخدم والمخبولين الذين ذهب الفقر ببصائرهم، واستهجن هروب المتعلمين إلى العاصمة والمدن الكبرى، كما استغرب خنوع بعض الريفيين وفساد الطبقة السياسية، وقال: (في هذا العالم المتجمد، أهناك أغرب من أن تجد إنساناً سعيداً؟ فهذه الجدران الترابية لم ترن يوماً بأصداء قهقهة ما منذ بنيت)- ص 60.

الحياة الريفية الصعبة الرتيبة جعلت كل شيء بلا طعم حتى الأعراس، وعرس محمد علي الجندي الذي عاد إلى بيته بعد غيبة سنوات، وطفله الناحل لا يعرفه، والعدو الذي هزم في معركة إينونو من قبل عاد من جديد. مستغلاً دعم الدول الأوربية له، واحتل إزمير وبورصة، مستغلاً الانقسام في قمة السلطة بين السلطان الذي وقع صلحاً، ومصطفى كمال وعصمت باشا اللذين لم يوافقا على ذلك، وبدأت النتانة تفوح من كل شيء، حتى رائحة الطين على ضفتي النهر تفوح كرائحة جثة نتنة. ص 64. والأخبار التي تناقلتها الصحف، وحملها المختار من المدينة لا تسر، والقلق اجتاح نفوس أهل القرية، والأبتر لم يجد تقبلاً من الريفيين، ولم تقبل أية أسرة تزويجه من إحدى بناتها، وحاصرته الهواجس، لكن أمينة الصبية التي صادفها في الغابة خلبت لبه، وبادلته الإعجاب، وهي من قرية مجاورة، وحين طلب من صديقه بكير أن يخطبها له، رفض أهلها، وزوجوها لإسماعيل، الشاب الخامل الذي لا يليق بها.

قرى متروكة لمتاعبها وبؤسها وطقوسها الراسخة، وحكومة أنقرة غير معنية إلا بالصراع على المغانم والامتيازات، والمحتلون وصلوا حتى نهر بورسوك، ونكلو بالفلاحين بعد أن نهبوا غلالهم ومدخراتهم القليلة، ثم أحرقوا المنازل وقتلوا من رفض تنفيذ أوامر ضباطهم، ولم تجد أمينة حماية إلا من الأبتر الذي أخرجها بعيداً نحو  الغابة، وأحس أنه لا ينقذها وحدها بل ينقذ وطناً بأكمله.

جرح فيرا خلال إبعاد أمينة عن أنظار الجنود المحتلين، وسجل آخر ملاحظاته في الدفتر، وخشي أن يتلف أو يقع في أيد لا تقدر قيمة ما فيه، وظل جرح جنبه الأيسر ينزف، وتنفجر منه العفونة الداخلية كلها، وأسند الأبتر رأسه إلى ركبة أمينة وغفا، وأوصاها أن توقظه عند الفجر، وحين استيقظ أودعها الدفتر، ومضى نصف جائع ونصف عريان، والدم يسيل من جنبه نحو الآفاق البعيدة اللانهائية. ص 282.

شخصيات الرواية ومناخاتها تقدم صورة واقعية للريف المفقر المهمش، وللقرويين الذين تجتمع في نفوسهم الطيبة والبساطة والتكافل من جهة، وتحاصرهم ألوان الشقاء وتبلد أذهانهم. ويعاني معظمهم من تشوه جسدي أو نفسي نتيجة البؤس والرتابة والعزلة، وتضيف الحروب والصراعات قهراً مضاعفاً تفقد معظمهم أغلى ما لديه.

وأحس الكاتب بإشاراته اللماحة لقراءاته في الكتب التي حملها معه إلى القرية، أو في الصحف التي أوصى من يسافر إلى المدينة يجلبها له، إلى أن إنماء الريف وتطويره سيأتي من خارج نمط عيشه السكوني الجامد، وأن للثقافة دوراً مهماً في ذلك، ولفت إلى التأثير السلبي لغياب المثقفين والنخب التي ينتمي قسم منها إلى القرى عن المساهمة في تحرير الفقراء من الأمية والبؤس، وهي مسألة لا تخص منطقة بعينها، أو بلداً واحداً، ولكنها مشكلة مزمنة تعانيها دول كثيرة، وتبوء محاولاتها بالإخفاق في إيجاد حلول ناجعة لها.

استخدم يعقوب قدري أوغلو لغة سهلة بسيطة تقترب من لغة الفلاحين، وضمنها عبارات ومفردات باللغة المحكية التي يتخاطب بها الريفيون، ولم يحفل بالتزويقات اللفظية أو المبالغات في استخدام الصور، حرصاً على واقعية المشاهد التي وضع قارئه في قلبها، وحاول أن يشركه في توثيق الأحداث المسببة لمعاناة البشر، ويجتذبه إلى العمل لمواجهة تداعياتها.

عنوان الرواية، وحال الشخصية الرئيسة فيها فيرا الأبتر، يشيران إلى مشكلة اغتراب المثقف عن  واقعه، وهي مشكلة مزمنة لا ترتبط بأزمنة أو أزمات طارئة، بل تتصل بتركيب البلدان المتخلفة المشوه، و(بانزياح) النخب والمثقفين إلى المدن الكبرى، وباستنزاف الأرياف النائية الدائم. وضعف الاهتمام بتأمين حاجاتها الضرورية من جانب النخب الحاكمة، ومن المثقفين أيضاً.

ويكن أن نعد رواية (غريب) واسطة العقد بين روايات الكاتب، ونذكر منها (سادوم وعمورة) عام 1928.

و(أنقرة) عام 1934 و(بانوراما) عام ،1954 لما أثارته من نقاشات، ولما صدر منها من طبعات جاوزت خمس عشرة طبعة.

وإذا كانت الأعمال المهمة تثير ضجة كبيرة في العقول والقلوب على حد تعبير سلمان رشدي،، فإن الضجة التي أثارتها رواية (غريب) تبقي الملف الكبير المتعلق بدور المثقف وعلاقته بالسلطة وبالمشكلات الاجتماعية، وبمسؤوليته الإبداعية والإنسانية قيد الدرس.

العدد 1104 - 24/4/2024