واقع العمل بين المحدودية والاستغلال (2)

في متابعة حديثنا عن صور الاستغلال التي يشهدها واقع العمل، وبعد أن أشرنا في المقال الماضي إلى صورتين اثنتين، نصل اليوم إلى معالجة ثلاث صور أخرى، وأولاهما قلة المردود المادي الذي لا يتناسب مع مدة ساعات العمل والمتطلبات الحياتية.

    فأجور العمالة تتراوح بين عشرة آلاف وثلاثة عشر ألفاً مقابل عمل يومي مدته ثماني ساعات، أي ما يقارب أربعمائة ليرة سورية يومياً، وهو مبلغ ربما يكفي لوجبة واحدة من الوجبات المتوسطة أو الجيدة، إن كان العامل شاباً، وبالطبع لن يتمكن من ادخار ولو شيء يسير لمستقبله، أما إن كان رباً لأسرة فإنه إن لم يجد عملاً آخر يسدُّ به الرمق، فسيموت جوعاً مع أطفاله، هذا إن لم يسلك سبل الانحراف لتأمين القوت، من السرقة وغيرها.

    وبالانتقال إلى نوعي الاستغلال الأخيرين، نحب أن نلفت النظر بداية إلى أنهما نمطين غربيين غريبين عن عالم الأعمال لدينا، وبعيدين كل البعد عن أفكار العمالة، حتى إن السامع بهما للمرة الأولى ليحسب أنه سيجني من ورائهما الثروات الطائلة، لا سيما مع وجود أولئك الذين يزيّنون له هذا المعتقد مستفيدين من جهله وقلة معلوماته حول الخبايا التي تخفيها تلك الإغراءات، ونبدأ بأولهما الذي يدعى التسويق الشبكي.

وهذا النوع بدأ في أول أمره فردياً، ثم قامت شركات تتبناه وتجعله عماد عملها، والتسويق الشبكي يتستر بشعار (من المنتج إلى المستهلك)، ثم يطلب من الموظف أن يدفع رسم اشتراك لدخول هذا المشروع، وهذا الاشتراك بلغت قيمته في بعض الأحيان ألف دولار، وبجزء من هذا الاشتراك يتم بيعه سلعة أو مجموعة سلع لا يهم نوعها، ثم يتم تدريبه ليحضر أشخاصاً خمسة يكون مسؤولاً عنهم وعن دفع السلعة إليهم مع نيل ربحها، وكل واحد من الخمسة سيحضر خمسة آخرين، وهكذا يتسع الهرم ويتربع على رأسه بحيث تكون مهمته فقط تمرير السلعة من مكانه إلى طبقات الهرم نزولاً، وكلما اتسعت قاعدة الهرم زادت ثروته اتساعاً.

وفي حال ما استطاع القيام بالخطة المرسومة، فالشركة غير ملزمة بإعادة ماله إليه ولا إرجاع السلعة التي باعته إياها.

وهذه الشركات قد عفا عليها الزمن في بلادها الأصلية لأنها تعاني الانهيارات السريعة إلى جانب كونها تعزز الرأسمالية والجشع في المجتمع، فتزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً، ولا أدري لماذا لا نستجلب إلى بلادنا إلا ما فشل من التجارب.

وأما النوع الآخر الذي سنختم به الحديث فهو ما يسمى بالتسويق المباشر، وهو يشبه نظيره الشبكي من وجه أنه لا بدّ فيه من جلب أناس آخرين، ويختلف عنه في الأسلوب قليلاً، كما أنه يحَدد في ظاهره راتباً ثابتاً في حين لا يكون ذلك في الأول.

والصورة التي شهدتها له، هي أن تضع الشركة مرتباً عالياً نسبياً يتراوح بين (35- 50) ألف ليرة سورية مع نسبة على المبيعات، وتنبئ موظفها أن مهمته فقط زيارة العميل لعرض المنتج بعد دورة تدريبية تجريها له، ولكن من أين سيأتي هذا العميل ؟!!.

في حقيقة الأمر هو من سيحضره، ولكن من خلال ما تسميه زيارات تدريبية يجريها الموظف في نهاية تدريبه لمعارفه أو أقربائه أو أصدقائه، ومن هذه الزيارات عليه أن يحضر مجموعة أسماء ويسلمها لشركته لتقوم هي بالاتصال بهم وتنظيم مواعيد معهم.

وحتى ينال راتبه المحدد، عليه أن يقوم بمئة زيارة في الشهر، وهو أمر إن استطاعه، فإن شـــــــــــركته لن تبلغه إياه، فإن تخلّف عن المئة بواحدة، فإنه ينال على كل زيارة مبلغاً قدره مئتا ليرة سورية، لتغدو الـ 50 ألفاً تسعة آلاف وتسعمئة ليرة سورية فقط !!.

هذا هو الواقع !!، أما الحلول فنوجزها بعناوين عريضة جداً، إذ يتجسد أولها برفع مستوى الوعي لدى الشباب، ولعل هذا المقال جزء من ذلك، وثانيها رفع مستوى التعليم والاستفادة من المراكز التي تربط الخريجين بسوق العمل – وقد أشرنا إلى ذلك في مقالتنا السابقة -، وثالثها التركيز على اكتساب المهارات المطلوبة بشدة اليوم في عالم الأعمال وبخاصة اللغة الإنكليزية والكمبيوتر، ورابعها لمن هوخارج نطاق التعليم: الحرص على تعلم مهنة منذ الصغر يضمن بها عيشاً كريماً وحياة سليمة مستقيمة.

العدد 1105 - 01/5/2024