مستقبل العربية وأسباب الضعف

لعل اللغة من أجلّ الاختراعات التي أبدعها الإنسان، وقد ألجأته الحاجة إلى أداة للتواصل بين أفراد المجموعة البشرية التي يحيا بين ظهرانيها.

وهي مجموعة من الإشارات الصوتية، تواضعت على دلالاتها مجموعة بشرية معينة، كانت تعيش في فضاء مكاني متقارب، لتصير هذه الإشاارت نسقاً رمزياً من الأصوات التي تعبر عن حاجات الإنسان المادية أولاً.. ثم الروحية والمعنوية لاحقاً. وقد استمر الإنسان في تنسيقها وصقل نظامها ردحاً طويلاً من الزمن. حتى استوت وتكاملت، فقد بدأت مجرد أصوات تصاحبها إشارات مساعدة، ثم انتظمت لتكون مجموعة من الأصوات التي شكلت كلمة ذات دلالة، وبجمع الكلمات في سياق معين، استطاع الإنسان أن يعبر عن معنى، وأن يبلغ رسالة من نوع ما. ولكن اللغة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك إلى وظائف أخرى لتشبع نهم الإنسان للسمو والارتفاع، ولتحاول اللغة لاحقاً أن تقوم بوظيفة فوق توصيلية، وتواصلية، ألا وهي الوظيفة الجمالية.

تعد اللغة العربية من أعرق اللغات الحية وأعظمها وأجلّها، بما تمتلكه من سمات وخصائص وصفات. فما هو مستقبل هذه اللغة؟ ما هي المؤثرات التي قد تكون من العوامل المؤثرة في مسيرة تطور العربية؟

تعد اللغة مظهراً من مظاهر قوة الأمم، وقوة الابتكار فيها، وفي مجموع أبنائها، فإذا تراجعت قوة الابتكار، تجمدت اللغة أيضاً وانكسر خط تطورها، بل تراجعت حتى تصل إلى الموت والاندثار، ربما..

فثمة مبدأ لساني معروف وهو عدم وجود لغات متقدمة، وأخرى متخلفة في حد ذاتها، وإنما يصيب التقدم والتخلف أهل اللغة الناطقين بها، وهذا الارتباط قد يؤشر إلى حالة اللغة العربية، ومصيرها. فالنظم التربوية في معظم البلاد العربية تقوم على التفاوت في التعليم بين الحكومي والخاص، حكومي غيرجيد لأبناء العامة، وخاص جيد لأبناء النخبة، مع تدريس بلغات أجنبية.

بل إن التعليم الحكومي في بعض البلدان العربية، لا يستعمل اللغة العربية في مراحل التعليم جميعها، أو في التخصصات جميعاً وعلى الأخص التعليم العالي.

مثل هذا النظام التعليمي، سيؤدي إلى انحطاط المستوى اللغوي للغة الأم (العربية)، بل إن المسؤولين عن التعليم في بعض البلدان العربية يستغربون استعمال بعض البلدان العربية للعربية في التعليم كسورية، وعلى الأخص في التعليم العالي، ويستهجنون ذلك زعماً منهم بضعف اللغة العربية عن مجاراة العصر أو القدرة على اجتراح المصطلحات العلمية أو مجاراة اللغات الأخرى في إبداعها وقولبتها لتدل على ما تنتجه آلة الإبداع الحديثة.

إن من الآفات الكبرى التي تؤثر في مستقبل اللغة العربية، أن المعلمين في المدارس العربية، وفي المستويات جميعها، لا يستعملون اللغة العربية الفصحى في تدريسهم، بل يفضلون استعمال العامية القطرية، إما لضعفهم فيها، وهذا الأرجح، وإما استسهالاً للعامية، وإما لعدم تلقيهم تدريباً كافياً، وإما لعدم وجود القوانين التي تلزمهم بالتدريس باللغة الفصحى، المبسطة التي تستعمل في المنابر الإعلامية الرصينة.

ومن بين مشكلات العربية اليوم، أن كثيراً من مناهج التعليم العربية ابتعدت عن الثقافة العربية المشتركة، وباتت تروّج لثقافة قطرية ضيقة أو إقليمية مرضية، فشاعت دعوات من مثل: (سَعْودة، وتوْنَسة وأرْدَنة، وجزأرة…) مما أغرى الناشئة بالابتعاد عن الثقافة الأم التي تجمع أبناء الأمة وتغريهم بالاهتمام بلغتهم وتاريخهم وثقافتهم.

يضاف إلى ذلك قيام السلطات العربية بالسماح بإنشاء محطات إذاعية أو تلفزيونية تبث باللهجات المحلية، بحجة تقريب المعرفة إلى فهم عامة الشعب، وهي حجة واهية، تدحضها أن كثيراً من أمهاتنا وجداتنا يتابعن بشغف المسلسلات المدبلجة باللغة الفصحى ويفهمنها، كما أن كثيراً من الدول الأخرى ـ كإنكلترا والصين، وفرنسا، وروسيا.. قد أنشأت محطات تبث بالعربية الفصحى، وليس بأية عامية.. إدراكاً منها أن هذه اللغة هي الأقدر والأحسن للتواصل مع الشعب العربي في أي قطر أو صقع عربي.

ومع استشراء العولمة وهمينتها، ازداد تهميش اللغة العربية، وشاع استعمال اللغات الأخرى، والإنكليزية خاصة.

وفي إطار النقد الذاتي، لا بد من الإشارة إلى أن موقف المتعصبين المتزمتين الذين يرون في اللغة العربية صنماً مقدساً لا يجوز الاقتراب منه أو مسّه خوفاً عليه، وكأنما هي زجاج هش قد تكسره أية لمسة أو همسة أو إيماءة،وهم بذلك إنما يقومون بتحنيط اللغة، وهي الكائن المتجدد بتجدد أبنائها وتأثرهم بالمستجدات وبالمعطيات الحضارية، مثل هؤلاء يعتقدون أن التشدد اللغوي، وعدم قبول إلا ما حوته المعاجم القديمة، إنما يحافظون بذلك على سلامة اللغة، وربما فاتهم أن اللغة تتطور بمفرداتها وأساليبها، فسلامة اللغة لا تتيسر بالجمود والمحافظة المتشنجة، وإنما بالمحافظة على أصول اللغة ونظامها اللغوي، وقواعد صياغتها، مع مرونة في التعبير عن العصر وحاجاته.

إن المحافظة على ما هو حي لا تتحقق بوضعه في أقفاص تقطع عنه الهواء، فيتعفن ويموت. لقد برهنت اللغة العربية على مدى تاريخها، أنها قوية وقادرة على الصمود والبقاء والتجدد، على الرغم من الصعوبات التي مرت بها، فما أبلت جدتها، ولا أوهنت عزيمتها على البقاء والاستمرار.

إن ما يمكن أن يصيب هذه اللغة هو ما أصاب اللغات الأخرى من التحول دون أن يصيب نظامها النحوي وقواعد صياغتها الراسخة، ولكن ذلك ليس عاجلاً، بل بعد أطوار من الزمن، وسيبقى النص المقدس (القرآن الكريم) من أكثر العوامل محافظة على هذه اللغة الشريفة. وربما يكون في تبني الدول العربية سياسات إعلامية، وثقافية، وتعليمية جديدة وسيلة لتدارك ما يمكن حدوثه، وذلك بالعودة إلى استعمال اللغة الفصحى المبسطة التي يفهمها الناس جميعاً، في المدارس والمنابر الإعلامية والجامعات، ومعاهد التعليم، وذلك عبر قرارات ملزمة يسهر على تنفيذها مع العمل على تبسيط القواعد، وعدم التركيز على ما هو شاذ ونادر لصالح الشائع السائغ، مع العمل على رفع السوية الثقافية والمعرفية، والتركيز على استعمال الفصحى المبسطة، في مراحل التعليم جميعها، حتى في المواد العلمية والتقنية.

وإلزام المدارس الخاصة، والجامعات الخاصة بالتدريس باللغة العربية الفصحى، وتطوير أساليب تدريس اللغة العربية في التعليم بمراحله المختلفة، وتنمية قدرات المتعلمين على استخدام اللغة لتصبح أداة سهلة الاستعمال في التعبير عن الذات وعن حاجاتها، تحدثاً وكتابة.

والعناية بالترجمة العلمية، والتقنية، والأدبية، ومحاولة تسهيل تعلم العربية لغير الناطقين بها مع الحث على تعلم اللغات الأخرى.

إن مثل هذه الاقتراحات لا تعد جديدة، فمما لا شك فيه أن قيلت بأساليب متعددة في مساحة نصف القرن التي سلفت، وعقدت المؤتمرات والندوات للمجامع ولوزارات التربية والتعليم العالي العربية، ولكن توصياتها ظلت حبراً على ورق، ولم تنفذ.

إلا أننا لا نستطيع إلا أن نؤكد هذه التوصيات مرة تلوى الأخرى حفاظاً على هذه اللغة  التي تشكل حصننا الذي ما يزال قادراً على حماية انتمائنا لأن اللغة وطن، وحياة الأمة بخصائصها القومية، تتحدد بخصائص عدة من أهمها اللغة، وخير الوسائل في المحافظة على اللغة وتنميتها، هو تشجيع أهل اللغة على القراءة والتزود.. بتراث الأمة، وآدابها وعلومها.

العدد 1105 - 01/5/2024