«رؤوس مستديرة ورؤوس مدبّبة» لبريخت… الفن يقاوم الفاشية

(عن كبار هذا العالم

تحكي لنا الحكاية

أن نجمهم يعلو صعداً نحو السماء

 لكنه سرعان ما يسقط

 إنها حكاية كئيبة

 علينا ان نعرفها

 ولكن، بالنسبة إلينا، فنحن الذين علينا إطعامهم

 لا شيء يتبدل، واأسفي! لا قبل ولا بعد

 فليصعدوا ولينزلوا من يدفع النفقات؟

 دورة إثر دورة، يدور الدولاب ويدور دائماً

 ومن يرتفع إلى الأعلى سيتهاوى ورأسه إلى الأسفل

 وا أسفي – الذي ينزل وينزل

 ما الذي في إمكانه أن يفعل، دائماً وأبداً… ودورة اثر دورة… دفع الدولاب!).

 هذه الأغنية تغنيها نانا، فتاة الليل المتشائمة معطية إياها عنوان (نشيد الناعورة)، وذلك في إحدى اللحظات الحاسمة في واحدة من أكثر مسرحيات برتولد بريخت مرارة وقسوة: (رؤوس مستديرة ورؤوس مدببة). وكيف لا تكون متشائمة مسرحية أعاد كتابة صيغتها الجديدة المعدلة في عام ،1933 كاتب وجد نفسه مضطراً إلى سلوك درب المنفى بعيداً من ألمانيا، بعدما سيطر النازيون على السلطة وبدأ الوطن بالانهيار ومعه كل الأحلام والأفكار الكبيرة؟ وفي وقت كان أولئك الفاشيون النازيون قد بدؤوا فيه اضطهاد ومطاردة كلّ من لا يرى مثل آرائهم ولا سيما في صفوف الفنانين والكتّاب الذين كان بريخت آنذاك واحداً من أقطابهم.

منذ ما قبل ذلك بعام، ويوم كان ما يزال ثمة بعض أمل، كان بريخت بدأ يعمل على هذه المسرحية في اقتباس واضح عن مسرحية شكسبير (العين بالعين). وفيما هو يعمل عليها (فاجأته) انطلاقة النازيين وهيمنتهم على البلد، فحمل النص مع ما حمل من أوراقه ودفاتره على عجل، وتوجه الى الدنمارك حيث عاش ردحاً من الزمن، وهناك كما تقول سيرة أعماله، أعاد كتابة المسرحية، بعد أن دفعته الظروف الجديدة إلى إحداث جملة من التغيرات الجذرية في مخططه الأول لها، مبتعداً بها هذه المرة عن شكسبير أكثر وأكثر. ثم أشرف ما إن انتهى من صياغتها على تقديم أول لها، في كوبنهاغن، في عام 1936. ولنذكر هنا أن الاقتباس عن شكسبير كان عليه منذ البداية ان يكون معاصراً، من دون أن يبتعد بريخت كثيراً عن المسرحية الأصلية. غير أن مخيلة الكاتب الواسعة ومواقفه سرعان ما أملت عليه تلك التغييرات الجذرية، حتى وإن كان بريخت أعلن دائماً أن (العين بالعين) هي في أصلها الشكسبيري، أكثر مسرحيات الكاتب الإليزابيتي الكبير تقدمية، إذ إن مغزاها – وعلى الأقل كما تبرّع هو بتفسيره بنفسه ما إن ظهرت -، كان يقول إنه ينبغي أن يطلب من الكبار، ما يطلبونه هم انفسهم من الآخرين، في معنى أن الكبار لا ينبغي لهم أن يطالبوا الصغار بأخلاقيات لا يمارسونها هم بأنفسهم. ومع هذا ها هو بريخت يكتب في أوراقه إنه بدلاً من أن يتبع شكسبير في (معالجة مشكلة الرحمة والضعف البشري)، يرغب في أن يسلط الضوء على الطابع الطبقي للقضاء والسلطة: بالنسبة الى بريخت يقوم الأمر في البرهنة على أن الرغبة في المصالحة بين المصالح الطبقية عن طريق أي أيديولوجيا من الأيديولوجيات – تلك التي يقول إنها اعتادت أن تموضع نفسها فوق الطبقات – إنما هي مشروع مخادع مآله الفشل حتى ولو كان ينطلق من أطيب النيات.

مهما يكن من أمر لا بد من الإشارة هنا إلى أن (رؤوس مستديرة ورؤوس مدببة) تبدو في صياغتها النهائية، أشبه بأمثولة سياسية/ أخلاقية، وهي في هذا الإطار قد تبدو قريبة من أصلها الشكسبيري، حتى وإن كان برتولد بريخت قد تعمّد تغيير الأماكن والأسماء، مضيفاً إلى عمل سلفه المسرحي الكبير، اقتباسات من فولتير (حول قضية كالاس)، ومن هاينريش فون كلايست ((حكاية ميخائيل كوهلاس)) وحتى من سويفت، الذي يدين له بريخت باسم (المملكة) التي تدور فيها الأحداث، حيث يُحلّ بريخت مدينة لوما (الخيالية) محل مدينة ليما (في البيرو) التي كانت مسرح الأحداث في الأصل. غير أن ما لم يقتبسه بريخت من أي مصدر آخر، والذي أثار قلقاً كبيراً حين عرضت المسرحية للمرة الأولى، إنما كان تلك الإشارة الواضحة إلى التواطؤ الذي يقوم في المسرحية بين الرأسماليين الآريين، والرأسماليين غير الآريين (اليهود تحديداً) لدعم الهتلرية. والغريب أن بريخت أورد هذا المعنى في مسرحيته، مع أن قوانين نورنمبورغ، كانت تتحدث بكل وضوح عن المصير السيّئ لليهود في الزمن النازي، سواء كانوا فقراء أو رأسماليين، غير أن هذه مسألة اخرى بالطبع.

تدور أحداث (رؤوس مستديرة ورؤوس مدببة) إذاً، في ياهوس، حيث توشك الدولة أن تتهاوى. وها هو نائب الملك ووزيره ميسينا، يبحثان عن وسيلة تمكنهما من تفادي الكارثة الاقتصادية. وفي انحاء البلاد يتمرّد المزارعون رافضين دفع الجزيات المتوجبة عليهم. ويتجهون صوب منظمة ثورية يمثلها حزب (المنجم). أما (الخمسة الكبار) الذين يمثلون الثروة، فإنهم يرفضون معاونة الحكومة إن لم تسحق الثورة أولاً. وهنا تلوح فكرة تقول إنه ربما سيكون في مقدور شخص حيادي، يقف في الوسط بين التيارين، أن يصالح بينهما. هذا الرجل هو أنجيلو إيبرين الذي (اكتشف) نظرية سياسية واجتماعية جديدة هي نظرية الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة. أصحاب الرؤوس المدببة هم (الطفيليون) الغرباء، الدخلاء، الأنانيون والماديون الذين تنبغي إبادتهم. أما أصحاب الرؤوس المستديرة فهم (النبلاء) والارستقراطيون الكرام. وإذ يبدأ إيبرين بوضع نظريته موضع التطبيق، مدعوماً بـ (الخمسة الكبار)، يتوصل إلى زرع الشقاق في صفوف المزارعين الذين يتمكن أحدهم – تطبيقاً لنظرية إيبرين – من الاستيلاء على حصانين يملكهما غوزمان ويتهمه بالإساءة إلى ابنته نانا ما يشكل خرقاً للقوانين العنصرية. غير أن كالاس سرعان ما يكتشف أنه خُدع: صحيح أن شرفه قد رُدَّ إليه، لكن الحصانين انتزعا منه، على يد محرضيه أنفسهما. كما رفض تخفيض نسبة الجزية التي يدفعها. وينتهي به الأمر إلى إن يجند في صفوف الجيش، ولكن هذه المرة ضد أصحاب (الرؤوس المربعة) الذين أتوا ليشكلوا خطراً جديداً يحيق بالوطن.

إن شخصية المزارع كالاس، هي الشخصية المهيمنة تماماً على العمل. إنه رجل قاس صلب. وهو من ناحية مبدئية كان عليه أن يبدو ذا رأس مدببة، لكنه ينتمي إلى الرؤوس المستديرة، ما يجعله يضع كل ثقته في النظام الجديد، وفي الخطة الجهنمية التي وضعها ايبرين.. ثم يتأخر – ويدفع الثمن باهظاً – من دون إدراك أن هذه الخطة إنما تقوم على أيديولوجية تعزّز الصراع القديم، الأزلي الأبدي، بين الذين يمتلكون وبين الآخرين الذين يرزحون دائماً تحت ربقة استغلال المالكين لهم. ومن الواضح أن ما هو ماثل في هذه المسرحية ذات الأصل الشكسبيري، إنما هو الواقع الراهن الذي يهيمن عليه نازيّو هتلر وفاشيّوه، بما في ذلك الأحداث التي كانت ألمانيا تعيشها في ذلك الزمن وصولاً الى مناهضة السامية، والقوات الخاصة، والخطابات التي تبث عبر أمواج الأثير، والمقاومة الشيوعية وهيمنة فكرة العدو الأزلي، وما إلى ذلك من عناصر تكمن في خلفية هذا العمل الذي رأى فيه بعض النقاد نوعاً من الرد على فيلم (متروبوليس) لفرينز لانغ الذي تقول إحدى قراءاته الأكثر وعياً أنه يدعو إلى المصالحة بين الطبقات (بين العمال ورأس المال تحديداً) تحت رعاية القلب، الذي هو النازية في أعمق تجلياتها، ضد (العدو الخارجي).

عندما كتب برتولد بريخت (1898-1956) هذه المسرحية، كان قد وصل إلى أوج شهرته، وبدأت أعماله، التي عرضت قبل ذلك في ألمانيا، ثم راحت تعرض وتترجم في شتى أنحاء العالم، تفرض حضورها، ليس فقط كأعمال فنية، بل أيضاً كبيانات سياسية يخوض الكاتب من خلالها معركته ضد النازيين وضد الطفيليين وضد الرأسماليين في وقت واحد. وعلى هذا انضمت هذه المسرحية، الى تلك المجموعة الرائعة من الأعمال المسرحية التي جعلت بريخت يُعتبر من اكبر المؤلفين المسرحيين على مدى التاريخ، مثل (أوبرا القروش الثلاثة) و(ارتورو اوي) و(حياة غاليلي) و(الاستثناء والقاعدة) و(الأم) وغيرها.

عن (الحياة)

العدد 1107 - 22/5/2024