الأمن والاقتصاد والاستقرار.. ثلاثية الصحة النفسية

كثُرت في الآونة الأخيرة محاولات الانتحار بشكلٍ ملحوظ ومؤلم.. فبعد ما بات يتعرض له الإنسان من أوجاع يصل به الحال إلى أن تتبادر إلى ذهنه هذه الفكرة المرعبة التي ينهي الإنسان فيها حياته في لحظة !

دهشة كبيرة وصدمة لمن حوله، ألم يتجاوز الوصف وخيبة ومرارة كبيرة أن تفقد إنساناً عزيزاً بهذا الشكل.. سؤال كبير وهو: ما  الدافع لمثل هذا الفعل؟

سؤال قد تكون له أجوبة كثيرة ولكن النتيجة واحدة وهي أن الإنسان يصل إلى قمة اليأس ما يجعله راغباً في الراحة وإنهاء كل شيء وبالتالي الانتحار، فما الذي جعل هذه الظاهرة الخطيرة والتي تبعث شعور بعجز هائل تأخذ بالازدياد ؟

إذاُ لا بدّ من انبثاق بعض الحلول أو على الأقل إقامة بعض دراسات عن هذا الشأن، ولأن من أهم أدوات إيجاد الحلول تحديد الأسباب، قررت (النور) أن تجري بحثاً..

لا يخفى على أحد أنّ هذه الأزمة التي عصفت ببلادنا أكثر ما أصابته بسهامها: الأمن والاستقرار والاقتصاد، وهي الأمور الثلاثة التي تجعل الإنسان يشعر براحة تتيح له الاستمرار في حياته بأمل.. فقد غدت الحياة صعبة والعقبات كثيرة أمام تحقيق الأحلام وأغلقت سُبل الرزق في ظل آفاق مغلقة، كل هذه الأسباب تفتح باباً عريضاً للبطالة والفقر.. وهي تُعتبر من أهم أسباب الانتحار.

وقد تحدث الدكتور (مالح) عن ذلك  بقوله:

(لأن الإنسان حينذاك يصبح عاجزاً عن الإنجاز وتطوير حياته وبذلك تختفي دوافع الحياة.. ما يدفعه إلى اتخاذ القرار بإنهاء حياته بلا تردد.. قد يتردد فقط بأي وسيلة يريد بها أن يضع حداً لإحباطاته شنقاً أو رمياً بالرصاص أو قطعاً للشرايين أو القفز من الطوابق العليا).

إلا أن البطالة لا ترتبط بوجود الحرب فقط!

ومن منا لا يذكر بوعزيزي التونسي الذي أحرق نفسه، بعد أن عجز أن يعمل بشهادته ومُنع أيضاً من العمل بائعاً متجولاً للخضار!

وذلك  في ظل عدم وجود حرب، إلا أن البطالة موجودة، إذاً هنالك مشاكل جذريّة موجودة في مجتمعات العالم الثالث كما يُسمى، ما يجعلها بلداناً يكثر فيها الفساد وعدم تكافؤ الفرص وتضرب أحلام شبابها بعرض الحائط وتثير في نفوسهم السخط واليأس..

وكما نرى أن التخلف يفتح إحباطات كثيرة تجلب الانتحار، نجد أن نسبتها عالية أيضاً في المجتمعات الغربية الراقية، وعند سؤالنا لأحد الاختصاصيين قال:

(لا يمكننا أن ننكر وجود الرادع الديني في مجتمعاتنا.. فهنالك دوماً أمل بحياة أجمل بعد الموت وأن الانتحار سيحاسب المرء عليه، ومن هنا نجد أن النسبة أقل، لكن فلنضع فرضية أن الشعوب الأوربية غير المتدينة قد عاش في الظروف ذاتها لشبابنا قد نجد نصفهم ينتحرون إذاً فالمقارنة هنا غير ممكنة)!

لكن هذه ليست وحدها الأسباب.. فيوجد أيضاً أسباب اجتماعيّة كثيرة، من أهمها ما يسمى انتهاك الشرف! وهي تخفي ما بين السطور الكثير من الأسباب أهمها الكبت!

فكثيراتٌ هنّ الفتيات اللاتي يقعنّ ضحية غريزتهن وكبتهن ويرتكبن ما يُعتبر محظوراً كممارسة الجنس سراً، خصوصاً بعدما انتشرت وسائل الاتصال الحديثة.. التي باتت توقِع بكثير من المراهقات اللاتي يصدقن وعوداً كاذبة في أغلبها، فما بين صراع خوفهن من التصريح لعائلتهن، وبين توجسهن من المستقبل، ورعبهن من أن يُكتشفن وما قد يجلبه ذلك من عار على عائلاتهن وانعدام الحلول أمامهن.. يتخذن القرار بالانتحار..

مشكلة حلّها يتطلب تغييراً جذريّاً لتفكير اجتماعيّ، أهمها أن يتم اعتبار الخطأ خطأ، والسعي إلى حله بطرقٍ متفهمة واعية وناضجة لا اعتبار الخطأ جريمة!

ويتطلب ذلك تغيير مفهوم الشرف، الذي بات في مجتمعنا لا يشمل سوى أمور العِرض!

فكل إنسان خُلق وغرائزه معه، وهو أمر لا يمكن إغفاله إلا من قبل كل جاهل!

وعن هذا سألنا الدكتورة سحر زيادة التي أجابت بعد تنهيدة :

كم من فتاة ناجحة أنهت حياتها بعد اندفاع صغير، اللوم كله لا يقع عليها.. ولكن كم هذا مؤلم، فحتى القانون لا يُعاقب بقسوة على جرائم الشرف ما يجعله أمراً سهلاً، وبالتالي تفضل الفتاة قتل نفسها على أن تواجه عائلتها بالحقيقة).

كما أن حالات الاغتصاب كثيرة، وهي من أكثر ما يدعو الفتاة إلى الانتحار.. ولكنها تُخبأ بشدة ما لا يتيح عقاب المجرم.. هذه العملية من التكتم خوفاً على ما يدعى بالعار له نتائج كارثية تعمينا عن مواجهة الحقيقة.

وفي الوقت الذي نرى فيه معظم الذين يقدمون على الانتحار يموتون وتموت معهم أسبابهم يصبح من الصعب أن نحصيها كلها..

إلا أن الاختصاصيين يقولون إن ما نسبته 80 % من المنتحرين هم مرضى نفسيون لم يتلقوا العلاج المناسب!

وبذاك نعود إلى الدائرة نفسها وهي عادات المجتمع الواهية، التي تعتبر من يزور طبيباً نفسياً مجنوناً.. وترفض أن تتعامل معه..

وفي ذلك قال الدكتور أسطواني:

(كل من يزوروني يرجونني أن أخفي زيارتهم لي، الأمر الذي يثير عصبيتي من هذا المجتمع الذي تحكمه التقاليد السخيفة التي تودي به نحو الانحطاط شيئاً فشيئاً).

كما نجد أن الصحة النفسية مهملةً بشدّة في مجتمعاتنا، فالجهل بهذه الأمور والاستهتار بها باعتبارها أموراً ليست مادية لا تنم إلا عن نظرة قاصرة يجب محاربتها بشتّى السُبل في كل مكان، منها المدارس والجامعات.

كما أن تحطم الأسرة وقسوة الأم والأب وكبتهما لأولادهما وابتعادهما عنهم وعجزهما عن تفهمهم تجعل من الأولاد حاقدين على حياتهم، فيقررون أن يقتلوا أنفسهم عوضاً عن شعورهم المقيت بالاختناق.

إذاً فالوعي ثم الوعي ثم الوعي.. وهو وحده قد يكون الحل لكل تلك المشاكل السابقة، ونشر الوعي يتطلب جرأة من الصحافة ووسائل الإعلام والتربويين وتجريد المجتمع من غطائه اللامع لمواجهة مشاكله بجديّة.

وعلى الدولة أن تعمل بجهد كبير على توفير فرص عمل للشباب، وعلينا نحن جميعاً بلا استثناء أن ندعو للسلام مجدداً. فالحروب قاتلة الحياة والأمل وإن استمرت فستنشر مزيداً من الحطام.. وعلينا جميعاً أن نمارس دوراً توعوياً في مجتمعنا، وأن نحرر عقولنا من القيود الواهية ونريح الكثيرين من آلامهم وصراعاتهم، وبالتالي نحدّ كثيراً من هذه الظاهرة المدمرة.. ألا وهي الانتحار.

العدد 1104 - 24/4/2024