رحلة الأمل صوب المجهول

أدى عدم استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إلى تفاقم معدلات المهاجرين السوريين إلى شتى أصقاع العالم، ومعظهم بصورة غير شرعية، ساعين للبحث عن عمل أو تحسين وضعهم الاقتصادي خارج مدنهم وقراهم، أو هرباً من الخدمة العسكرية التي تؤرق مضاجع شبابنا، أو نتيجة تضييق مساحات الحرية على العقول المبدعة، أو بحثاً عن الذات المفقودة والهوية ضائعة المعالم، وغيره الكثير من الأسباب التي دفعت الآلاف إلى البحث عن حياة أفضل بعد فقدان الأمل من تحسين وضعهم في بلدهم، أو الهروب من موت بات يرافق السوري في مسيرته اليومية.

إنَّ كل تلك الأسباب مجتمعة أدت لزيادة معدلات الهجرة مؤخراً، مترافقاً مع لجوء الكثير من المهاجرين لمافيات التهريب وتحمل تكاليف باهظة، والمشي لساعات طويلة، وحشر أعدادٍ كبيرة منهم في مراكب صغيرة غير مهيأة لخوض غمار البحار، وأمست هذه المراحل هي أبرز محطات رحلة أمل السوريين إلى أرض الأحلام المنشودة، على الرغم من تعرض الكثيرين للغرق أو لانتهاكات جسيمة والبعض جرت إعادتهم إلى نقطة البداية.

وبغض النظر عن هول الأرقام الكبيرة للضحايا والمخاطر الواضحة المرتبطة بما يعرف بـ (قوارب الموت)، إلا أن ذلك لم يثن الآلاف من المهاجرين عن ركوب تلك القوارب باتجاه الشواطئ الأوربية لأسباب مختلفة، ووفق تقديرات المنظمة الدولية للهجرة توفي أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر غرقاً في البحر المتوسط خلال العام الجاري فقط، وهو ما يعادل أربعة أضعاف من غرقوا في العام الماضي.

(فأحمد) واحد من آلاف السوريين الذين ركبوا قوارب الموت هرباً من الوضع الأمني، وتحدث عن تفاصيل رحلته، فقد انطلق 20 شخصاً في قارب سريع من تركيا في رحلة استمرت قرابة النصف ساعة للوصول إلى اليونان، طلب ربان المركب في منتصف الرحلة منهم التخلص من نصف حقائبهم في البحر تخفيفاً للوزن كي يسير القارب، وتحدث عن خطوات رحلته التي دامت أكثر من شهر للوصول إلى السويد وما رافقها من عمليات سرقة وخطف وموت للبعض.

وعن الأسباب التي دفعته للهجرة قال أحمد: (لدي طموح كبير ورغبة بتحقيق أمور عظيمة لم يتح لي المجال لتنفيذ جزء صغير منها في بلدي)، وأردف يقول: (قبل سفري كنت أشعر بالضياع ولا أعرف ماذا أفعل، أضف إلى ذلك عدم عدالة توزيع الدخل، والفساد والمحسوبيات وتدنى مستوى الخدمات وغيره الكثير).

بدورها (مريم) وهي إعلامية سورية هاجرت إلى السويد بعد تعرض منزلها إلى قذيفة وتفجير سيارتها بعبوة ناسفة، أشارت إلى معاناة السوريين في الخارج، إذ باتوا اليوم مجرد أرقام بالنسبة للمنظمات والحكومات، ونوهت إلى جلوس الكثيرين منهم بانتظار معونة يأخذونها دون الاستفادة من وقتهم في تطوير ذاتهم وتحسين قدراتهم في بلد يوفر لهم الكثير من المجالات، وعزت مريم ذلك إلى الاتكالية التي اعتادها السوري في بيته مجتمعه.

وأشارت إلى المواقف النفسية المتوترة والضغوطات التي تصادفهم بفعل هجرتهم غير الشرعية، وتبدل البيئة الثقافية وانقطاع الصور التقليدية للعلاقات الاجتماعية التي كان يعيشها هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين في موطنهم الأصلي.

من جهتها (بيسان)، وهي سورية فلسطينية سعت للهجرة إلى ألمانيا بعد أن اعتدى عليها أحد أقربائها، تحدثت عن فشلها في الوصول إلى السفر إذ انتهى بها المطاف في أحد المخيمات التركية لرفضها ركوب قوارب الموت خشية الغرق.

وتحدثت عن معاناة اللاجئين ضمن المخيمات التي تفتقد أبسط درجات الإنسانية وتقول: (قد يكون الحل بالموت بدل أن تُجلد وأنت حي)، وأضافت: (بات الفلسطيني السوري يشعر بقرارة نفسه بأنه غريب في بره وبحره).

وأما المهندس (وليد)، المقيم حالياً في ألمانيا، فأسبابه كانت مختلفة، إذ لم يكن ينوي يوماً السفر إلى الخارج إيماناً منه بدوره في صمود وطنه إنطلاقاً من قناعته بالتشبث بالأرض مهما كانت الأسباب، ولكن وبعد تعرضه للضرب والإهانة والتهديد من قبل بعض أبناء حيه من عناصر الدفاع الوطني لمعارضته ما يقومون به من تصرفات لا مسؤولة تنعكس سلباً على صورة البلد، لم يجد أمامه من حل إلا المغادرة إلى مكان (يُحترم فيه الإنسان) على حدِ قوله.

لاشك أنَّ قضية الهجرة غير الشرعية أصبحت اليوم تشكل تحدياً ومشكلة إقليمية ودولية، إضافة لما يتسبب فيه ذلك من مخاطر وأزمات قد تلحق الضرر وحتى الهلاك بالمهاجرين، وما يتسببون فيه من أضرار وخسائر تلحق بدول الاستقبال، فحسب منظمة العمل الدولية، تمثل الهجرة غير الشرعية نحو 10-15% من الهجرة العالمية، وتقدّر الأمم المتحدة أعداد اللاجئين غير الشرعيين بنحو 155 مليون شخص، وهم في تزايد، كما ترتفع أعداد العمال المهاجرين وتتردى أوضاعهم بفعل ظروفهم غير القانونية وإمكانية استغلالهم بسبب ذلك.

ومن ناحية أخرى ارتفعت نسبة طالبي اللجوء السياسي إلى الدول الصناعية الأوربية بمقدار الربع خلال السنوات الأربع الأخيرة، ووفق تقرير للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة كانت سورية من أكثر الدول التي جاءت منها طلبات اللجوء بنحو 48.400 طلب، مقارنة بـ 18.900 في نهاية العام الماضي.

وبغضّ النظر عن أرقام الهجرة ومعدلاتها التي يختلف عليها الباحثون في ظل الأزمة، إلا أنهم يتفقون جميعاً أن سورية أفرغت من (عقولها) وعمالتها المؤهلة، ونسبة كبيرة من شبابها وشاباتها، وهي طاقات كبيرة يعوّل عليها للقيام بدور كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظل الظروف الراهنة، وهنا تبرز ضرورة العمل على إلغاء مسببات الهجرة أو الحد من تأثيرها، وترسيخ دعائم اقتصاد متين يركز على مصالح الشعب أولاً والاستفادة من الطاقات الشابة في بناء الوطن.

والتأكيد على ضرورة إيجاد حلول سياسية للواقع الحالي ووضع خطط ومشاريع للحد من الهجرة تعتمد بالدرجة الأولى على وقف العنف وإحلال الأمن والأمان، وإطلاق الحريات السياسية وتوفير الجو المناسب للعمل الحزبي، بالتزامن مع إعادة تدوير عجلة الاقتصاد الزراعي والصناعي بالدرجة الأولى، ووضع مشاريع وخطط تنموية لكل المناطق السورية بغية تثبيت المواطن في منطقته وتشجيعه على البقاء فيها.

وإلى أن يتم كل ذلك سيبقى رجاء الكثيرين إيجاد حيز صغير يصلون من خلاله إلى بلد يستطيعون فيه تحقيق ذواتهم المحطمة على حدود بلاد الشمس.

ملاحظة: جميع الأسماء وهمية وتمَّ تغييرها حرصاً على سلامتهم، والأسماء الحقيقية موجودة لدى إدارة تحرير الصحيفة.

العدد 1104 - 24/4/2024