«لا قديسون ولا ملائكة» لإيفان كليما… حكايات الانهيارات الثلجية

يغربل الكاتب التشيكي إيفان كليما بحساسية رفيعة في روايته (لا قديسون ولا ملائكة) ثلاث مراحل متتالية من التاريخ التشيكي بدءاً من الاحتلال النازي وصولاً إلى الشيوعية وانتهاء بالأزمة الوجودية التي أعقبت الثورة المخملية عام 1989. مما يضمن لنصه تلوناً إنسانياً مؤلماً، يبتعد عن المحاسبة وجلد الذات، بقدر ما يقترب من المعاناة وألم الاحتضار البطيء إبان المنعطفات الحرجة. وهذا لا يعني تأسيساً لضريح الأمل، بل مناشدة لرد الاعتبار للمواطن  الطيب الذي أُغرقه تعاقب الغزاة بالإذلال والتفريغ الممنهج للهوية الذاتية. وزع (كليما) الشخصيات بدقة عالية وتحليل موضوعي ذكي، لكنه اعتنى كثيراً بشخصية بطلته كريستيانا، وزامن بين محطات حياتها الأساسية والمفاصل الدقيقة في التاريخ التشيكي، بداية بولادتها يوم وفاة ستالين كخطأ سياسي في نظر والدها الشيوعي أو كصدفة قدرية أولجتها العالم في أحد أهم الأيام التي شهدها القرن العشرون. فتهيأ بذلك مبرر جيد لنفي صفة المخلص عن الطاغية السوفييتي، وتنسيبه إلى أقرانه من الجبابرة الذين تعاد ولادتهم مرة بعد أخرى من دماء ضحاياهم القتلى. ليفتح موته ـ لجزء من البشرـ  باباً كان موصداً بغباء في وجه الكرامة الإنسانية والتسامح والعدالة والشفقة.. ثم تالياً بتزامن طلاقها من مدرس التاريخ العجوز مع سقوط تشيكوسلوفاكيا. أما إرثها اليهودي الذي انتهى عند أمها بعد أن تكفلت غرف الغاز بتصفية بقية عائلتها، فيتسبب بشرخ علاقتها بوالدها. لأن زواج الأم من شيوعي غير يهودي كان تمرداً على خذلان الجد الذي طلق الجدة في مقايضة خاسرة على متجره. مما فرض علاقة أسرية مخلخلة مع الأب، تناسلت من الأم إلى الابنة فالحفيدة. كما سهل زواج الأم من معتقل شيوعي في معسكرات الألمان، التعاطي مع قضية الحريات المصادرة. فالأب الذي حررته القوات السوفيتية، أصبح عضواً في المليشيا الشعبية ومسؤولاً عن الرقابة السياسية، ومؤمناً أن وصول حزبه للسلطة سيقضي على الجوع وينشر العدل في العالم. فأعجزه إيمانه الأعمى عن رؤية المظالم المرتكبة حوله، مما عزز الشقاق مع ابنته الحساسة كريستيانا، فتأرجحت على الحد الفاصل بين الأمل واليأس، المرح والأسى، اللذة والمعاناة. وفقدت تدريجياً اتزانها الداخلي، لتقع أسيرة القلق والاكتئاب، ولتغذِ الرواية بحكايات مليئة بالانهيارات الثلجية المتزامنة مع أزمة منتصف العمر التي اختزلتها بتعبير إناء بلا زهور! 

يعود الزمن الفعلي للراوية إلى 1998 أي بعد مرور عشر سنوات على (الثورة المخملية). الأمر الذي يديره (كليما) ببراعة من خلال شخصية جاك الذي ولد عام ،1968 إبان ربيع براغ، خلال فترة تحرر سياسي مرت بها تشيكوسلوفاكيا، فترة أمل موجزة بشرت بتحقيق العدالة. فمع الوقت تخلى جاك عن دراسة النسخة الماركسية من التاريخ، التي حاولت إيجاد قوانين كمية صارمة ومثيرة للشفقة بسذاجتها لتغطية كل الظواهر الملتبسة. وشارك في التظاهرات واقتحم زمن الجدل السياسي والجنسي والديني، ليتوقف بقلق عند افتقار المناهضين للشيوعية إلى المثل العليا. مما يؤشر إلى غياب الإيمان بعد عقود من الوثنية الإيديولوجية النازية والشيوعية؛ فتلك الديانات الجديدة تتطلب الطاعة والانضباط، مقابل التجرد من الرحمة وغياب الرادع الأخلاقي، ما يعيد التضحية بالبشر بنسبة لا سابقة لها في تاريخ البشر.

شكلت العلاقة العاطفية بين كريستيانا وجاك محاولة لرتق الفجوة بين زمنين متباعدين، مثلما أرخ زواجها السابق بالمدرس العجوز لهدنة بين اتجاهين سياسيين. من هنا جسدت ابنتها المراهقة بسلوكها المتمرد نموذجاً ممتازاً لأزمة جيل ما بعد الثورة، الفاقد لبوصلته الإنسانية، والغارق في الإدمان والموسيقى الشيطانية. فبرزت شخصية المعالج (رادك) الذي أجاد التعامل مع الناس بشكل منفصل، وأتاح لهم تكوين موقف عن أنفسهم. فشباب الزمن الجديد ينقصهم الإيمان والحب، والافتقار للمهارة في التصالح مع الأشياء، لأنهم بالنتيجة مرايا لآبائهم الضائعين. أما عدم الاستقرار فهو مأساة المجتمع في ظل غياب الإحساس بالأمان، وفقدان الاتجاه، الأمر الذي يعمق الإحساس بالفراغ. إذ ليسوا رعاعاً كأولئك الذين تعلموا التكيف وتحمل كل شيء. من هنا يتطلب العلاج ملء الفراغ وبالتالي الصبر، مع ضرورة تذكيرهم على لسان الأب كوستكا أنهم ليسوا ملائكة ولا قديسين..

يبدو موضوع البحث الأساسي في الرواية متركزاً حول جدوى الانتقام والغفران، ابتداء بعبثية إيقاف الحياة عند محارق النازية، وصولا إلى مهزلة محاكمة الجلادين. فغالباً لا يتم فعل شيء لمعاقبة الذين سلبوا الناس حرياتهم بسبب بلوغهم أرذل العمر وتذرعهم بفقدان الذاكرة. فتغدو الحياة خيانة، وهجراً وغفراناً. لذلك يكون دخول كريستيانا إلى كنيسة مهجورة، خاتمة رائعة للرواية. فالكنيسة من الداخل خلت بشكل مثير للشفقة من الأيقونات إلا من طاولة صغيرة بسيقان مكسورة عليها آنيتا زهور مكسورتان، تشبهان جرة الرماد التي ضمت رفاة والدها. أي لا ملائكة ولا قديسين، بل تذكير بعجز البشر عن التفاهم وخبثهم مع بعضهم البعض.

العدد 1104 - 24/4/2024