الموت… ورحلة اللاعودة في الفكر الرافدي

معظم أساطير الشرقيين الأقصى والأوسط تشير إلى أن الموت ليس مرحلة نهائية من شأنها وضع حد لوجود الفرد بجميع صوره، بل هو عملية تؤمن عبور الإنسان لحالة أخرى من الوجود. لكن تجلّى الاختلاف في هذه الأساطير في رؤية كل أمة لحالة الروح ما بعد الموت، ووصف الحياة الأخرى التي تلي الموت، فالبوذية التي ظهرت في القرن السادس ق.م ترى أن موت شخص ليس نهايته، بل هي انتقال الروح بعد خروجها من الجسد إلى جسد آخر، حتى يصل إلى مرحلة النيرفانا وهي اتحاد الأرواح بالروح الكلية المتمثلة بالإله بوذا.

فالموت الجسدي لا ينهي وجود الإنسان، بل إن الميت يُبعث من جديد في شخص آخر أو في حيوان أو في نبات ، وهي تلتقي مع الهندوسية _ الديانة الأساسية والواسعة الانتشار في الهند _  في ذلك، فكلتاهما تؤمنان بتناسخ الأرواح التي تنتقل من بدن إلى بدن إذا ما كانت فاسدة لتتكرر دورة الحياة والموت حتى تصبح صالحة خيرة فتتحد مع الإله برهما وتصل إلى النيرفانا، وهي بذلك تختلف مع نظرة الإنسان السوري والرافدي، الذي يرى أن الروح تنتقل بعد خروجها من الجسد إلى عالم الأموات، وهو عالم سفلي يقوم تحت عالمنا القائم هذا.

فالحالة بعد الموت هي الحالة الدائمة التي لا أمل معها بالعودة للحالة السابقة، ولا بأي نوع من أنواع التناسخ أو التقمص كما هو الأمر في أسطورة الشرق الأقصى.

وهذا أشد ما كان يعذب الإنسان الرافدي، حيث وجد نفسه مضطراً للقبول بالواقع على أن الموت شيء خارج عن إرادته، وينبغي له الرضوخ والقبول به، واقتنع بأن آلهته قد حددت موعداً وعليه أن يذهب إلى مصيره.

وأكثر الأساطير التي تعبر عن هذه الفكرة هي أسطورة إيتانا ذلك الشخص الذي أدرك أن الموت حقيقة واقعة على كل البشر، وأنه فانٍ فلا بقاء ولا ذكر له إلا بالذرية والنسل، فهو الراعي الذي صعد إلى السماء على ظهر النسر ليطلب من آلهة السماء أن تمنحه الذرية لأنه لا ينجب رغم زواجه بعدد كبير من النساء فتمنحه الآلهة الأولاد، وبهذا يحظى إيتانا بالخلود عن طريق الانجاب.

وأولى الأساطير التي وصفت العالم الأسفل هي الأسطورة السومرية (انليل وننليل) المسماة بـ ولادة إله القمر التي تعتبر من أقدم الأساطير الشرقية التي قدمت تصوراً للعالم الأسفل وتركز على فكرة الانبعاث ، فموت إنانا وانبعاثها إلى الحياة من جديد وعودتها إلى الأرض هي العودة التي أعطت مبرراً منطقياً لوصف العالم الأسفل من جهة، وحملت بين جوانحها فكرة الخلاص، وإمكانية الإفلات من الموت من جهة أخرى، وهذا الخلاص هو تأكيد لقوة الآلهة وتثبيت لتجدد الدورة الدموية الطبيعية الحيوية في الوجود كما دعاها الفكر الأسطوري، فإنانا هي إلهة الإخصاب والنماء في الفكر السومري.

أما الخلود، ذلك الحلم السرمدي وتلك الأمنية المستعصية عن البوح بسرها اللاهوتي فقد دفع الإنسان الرافدي لأن يلهث وراءه، ثم يموت يائساً ومستسلماً لعجزه في الحصول عليه، وخير مثال يتمثل في شخصية جلجامش.

بالنهاية حاول الإنسان الرافدي تجسيد حقيقة جوهرية أساسية هي أن الموت هو رحلة اللاعودة، وأنه قدر كل إنسان دون استثناء، وتستحقه بعض الآلهة أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024