الإمبريالية الأمريكية والفن السابع

(.. السينما هي الأهم بين الفنون بالنسبة لنا…).

ف. إ. لينين

(على السينما (أن تمزج بين الواقعية الثورية، وبين الرومانسية الثورية).

ماوتسي تونغ

 »حالة حصار« فيلم سينمائي حيويّ، نوعيّ، نظيف كالكريستال الصافي، من حيث لغته الفنية العالية، ومن حيث أدواته السينمائية المتميّزة، ومضمونه السياسي الرفيع الفذّ، برهن أنّ الفنّ السابع سلاح فعّال من أسلحة الكفاح الإنساني، من خلال وظيفته الجمالية والمعرفية والإنسانية، ومن خلال دوره المكافح إذ يستطيع، بجدارة واقتدار، أنْ يبعث الوعي، وأنْ يخاطب وجدان الشعوب وعقولهم، أفراداً وجماعات، وأنْ يكون اللسان المعبّر عن أوضاعهم وأوجاعهم… وعن التحديات والمشكلات والأزمات التي تجتاح عالمنا المتردي في كل زمان ومكان.

 ولكن قبل أن ألقي الضوء على هذا الفيلم الذي أعدّه (إلى جانب الأفلام: زدْ ـ طالب متّهم بجريمة قتل ـ القتلة القانونيون ـ الأزمنة الحديثة ـ الديكتاتور…) خطوة متقدمة ومضيئة في مضمار الفنّ السينمائي السياسي العالمي، أودّ أنْ أشير إلى مسألة واحدة، كي نتبيّن بدقة مدى إخلاص ((حالة حصار)) للفنّ السابع النظيف وللإنسان في الوقت نفسه، ومدى وقوفه إلى جانب الشعوب المقهورة، المضطهدة، المستغلة… ومساعدتها فنّياً في كفاحها من أجل حياة إنسانية حقيقية، ونضالها الثابت العنيد الذي لا يعرف الهوادة ضد هذا الطاعون الذي يُطلق عليه اسم: أمريكا. وذلك من خلال تصوير الإمبريالية الأمريكية تصويراً صادقاً، وتعريتها وتبيان وجهها القبيح، مهما وضعت من مساحيق الزينة، أمام شعوب العالم قاطبة.

 ـــ المسألة التي أودّ الإشارة إليها تتجسّد في ذلك اللقاء التاريخي الذي جرى بين (ستالين) والكتّاب السوفييت بهدف مناقشة مشكلات الأدب والفنّ وتطويرهما بعد الحرب الوطنية العظمى، والهزيمة الشنعاء التي لحقت بالنازية والفاشية. ومما جاء في كلام ستالين (بتصرف): لقد صوّرتنا البرجوازية العالمية، عبر وسائلها الإعلامية من سينما وإذاعة وصحف ومجلات… كهمج متوحشين، لم نبلغ بعد درجة الإنسان.. وفجأة تهزم روسيا (الهمجية) قوتين جبارتين في العالم ؛ ألمانيا النازية، واليابان الإمبريالية اللتين وقف العالم بأسره أمامهما مرتجفاً (…). يريد العالم اليوم أنْ يعرف ما حقيقة هؤلاء الناس (والشيوعيون على رأسهم) الذين قاموا بتلك المأثرة العظمى، وأنقذوا البشرية… ومهمة الإنتلجنسيا السوفييتية المبدعة اليوم أنْ تبرز في أعمالها الإنسان السوفييتي البسيط الرائع، وأن تكشف وتظهر أفضل طباعه وخصاله… في هذا الأمر يتكون الخطّ العام لتطوير الأدب والفنّ.. وقال: تشنّ اليوم الإمبريالية العالمية حرباً سرية ضد بلادنا لم يشهد التاريخ مثيلاً لها تشمل الأدب والفنّ. ومن مهام العملاء الأجانب في بلادنا التغلغل وإحداث تأثير حاسم في المسرح والسينما، وهيئات نشر الفنّ الأدبي.. والدعاية للانحناء أمام كل ما هو أجنبي، ورسم لوحات مظلمة تشوّه تاريخ الشعب الروسي البطولي عبر الأفلام السينمائية.. ويذكر ما قاله سيناتور أمريكي متحمس: إذا استطعنا أنْ نعرض في روسيا البلشفية أفلام الرعب (والإثارة والموسيقا الشكلانية..) التي ننتجها لضربنا على الأرجح بناءهم للشيوعية…

 (انظر: ستالين / حقائق وأكاذيب ــ فلاديمير جواخري، ت: شاهر أحمد نصر)

 يطرح فيلم (حالة حصار) موضوعاً غاية في الأهمية والخطورة، وهو تدخل الولايات المتحدة الأمريكية تدخلاً مباشراً في شؤون الحياة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. ويتناول الفيلم، من خلال هذا التدخل المباشر للإمبريالية الأمريكية، التجربة الشاقة والدامية للنضال الجماهيري المنظم في أمريكا اللاتينية (الأورغواي أنموذجاً) عبر صراع منظمة (التوبا ماروس) مع سلطة عميلة حاكمة، تسير وفق أجندة الإدارات الامبريالية والشركات الاحتكارية الأمريكية الجاثمة فوق صدر البلاد وقلبها…

 هذه الشركات الاحتكارية الأمريكية الكبرى والمتعددة الجنسيات، وبالتنسيق الوثيق مع الإدارات الامبريالية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي.آي.ايه، والقوى والشخصيات العميلة والمرتبطة داخل البلاد المعنية… هذه الشركات وإن اتخذتْ أسماء براقة جذابة: التعمير، الإنماء، التقدم… هدفها الأول والأخير سياسي اقتصادي (وإنْ ادّعتْ وادعى بعضهم غير ذلك)، وهي تتسم، فيما تتسم، بالسمات التالية:

ـــ تمارس الابتزاز والتهديد والضغوط السياسية والاقتصادية، وترسم الخطط، بل الاستراتيجيات للاستيلاء على الأسواق والتدخل المباشر وغير المباشر في أي بلد من البلدان لتأمين مصالحها وتأكيدها…

ـــ تتصرف كقوة عظمى ذات سيادة في ميدان العلاقات الدولية، وتنتهج سياسة، وفق مصالحها

ومشروعاتها الخاصة، تقود إلى نتائج اقتصادية وسياسية تؤثر على أمم ومجتمعات بأكملها.

ـــ تقيم حصارات اقتصادية على البلدان (النامية) وتخضعها للمساومة (كوبا، العراق، إيران، سورية…).

 

(2)

ـــ تشكل بناء على ما تقدم خطراً داهماً على استقلال هذه الدول وسيادتها…

ـــ تقف وراء كل انقلاب رجعي في أمريكا اللاتينية وغيرها (الانقلاب الدموي الفاشي في تشيلي عام 1973 على سبيل المثال).

والآن ما الجوهري في (حالة حصار)؟

 مواطن أمريكي اختصاصي في المواصلات وخبير فيها، يدعى (فيليب مايك سانتوري) (يقوم بدور هذه الشخصية الممثل الشهير إيف مونتان)، يأتي من بعض بلدان أمريكا اللاتينية إلى (الأرغواي) عن طريق شركة الإنماء الدولية للتعمير والتقدم كموظف عادي في هذه الشركة الإنمائية… هذا ما نعرفه عن المواطن الأمريكي (سانتوري) في بداية الفيلم وخطوة خطوة يتبيّن لنا أن هذا الذي يدعى (سانتوري) الخبير في المواصلات والموظف العادي، هو على وجه الدقة خبير في الانقلابات العسكرية، وخبير في أساليب الاغتيال السياسي، و خبير في التجسس والمتفجرات والقمع والتعذيب بمختلف أشكاله وأنواعه وأدواته التقنية الحديثة، وخبير في إعداد أطقم الطغاة والجلادين والقتلة والإشراف عليها.. وإلى جانب ما تقدم جميعاً هو، أي (سانتوري) معلم بارع لايجارى ولايضاهى في تعليم خيانة الشعب والوطن (؟).

 وهكذا نكتشف أن هذه الوظيفة العلنية للمواطن الأمريكي (سانتوري) ما هي إلا غطاء لتمرير أجندة سياسية إمبريالية أمريكية، هي أخطر بكثير من التدخل والغزو العسكري المباشر، في بلدان أمريكا اللاتينية، وفي دول (العالم الثالث) عموماً.

 وهكذا، مرة أخرى، يتبيّن لنا بجلاء ووضوح أن (سانتوري) ولجنة الإنماء الدولية للتعمير والتقدم، وبالتنسيق الكامل مع الإدارات الامبريالية واستخباراتها، هؤلاء جميعاً هم الذين يقودون فعلياً تلك البلدان المعنية ويوجهون دفتها، إذ نراهم على أرض الواقع دولة فعّالة ضمن دولة واهية، مضلّلة ومخادعة.. يمارسون سلطة حقيقية قاهرة داخل سلطة شكلية غاية في الخضوع والتهافت(..؟!). 

والسؤال: هل (حالة حصار) هو مجرد فيلم سياسي رفيع المستوى قدّم عبر لغة سينمائية متميزة وفنية عالية، قراءة موضوعية لما تقوم به الإمبريالية الأمريكية وشركاتها واستخباراتها في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، ودول (العالم الثالث) عموماً في حقبة زمنية معينة ومحددة، وانتهى الأمر وانقضى؟

 

(3)

ـــ هل غيّرت الإمبريالية جلدها وطبيعتها وأهدافها وسلوكها وسياستها…؟

ـــ وهل اختلف يومها عن أمسها؟

 إنّ استقراء ما يجري في بعض البلدان، وفي الوطن العربي، وفي العالم ككل (فلسطين، العراق، لبنان، سورية، إيران، كوبا، فنزويلا، بوليفيا، أفغانستان…)، يقول بما لا يقبل الشك والمكابرة: إنّ قراءة (حالة حصار) لا يمكن أنْ تفهم على أنها قراءة لحقبة زمنية محددة انتهت وانقضت، فأمريكا لم تتغير، ولم يختلف يومها عن أمسها.. بل وصلتْ في الآونة الأخيرة إلى محطة تاريخية غاشمة وسادرة في غيها حين أعلنتْ أنها هي الحقيقة الوحيدة في العالم، وحين دعتْ إلى تصفية (الآخر) الذي لا يسير في ركابها، منطلقة من معادلة متطرفة وجحيمية هي: أنتَ معي.. إذاً أنتَ ديمقراطي وخيّر (…)؟.

أنتَ ضدي.. إذاً أنتَ إرهابي وشرير (…)؟.

 لكننا في المقابل وفي السياق التاريخي (لحالة الحصار) نرى تململ شعوب أمريكا اللاتينية، واتساع دائرة دولها المناهضة للولايات المتحدة الأميركية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي.. حيث نلحظ تلك الحملات المتنامية ضد الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات، وضد سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات أمريكا اللاتينية، وحيث نلحظ، كذلك، تنامي التيار اليساري الوطني وسقوط عدد من الأنظمة الديكتاتورية الرجعية العميلة.. وظهور أنظمة سياسية تقدمية، ديمقراطية تعمل على تطوير الوطن، وتنميته في مختلف الميادين، واستقلاله استقلالاً حقيقياً وتنحاز إلى الفقراء والكادحين.. وتسعى بجدية واقتدار إلى النهوض الاقتصادي والبناء الشامل على قاعدة العدالة الاجتماعية من أجل حياة أفضل للشعب ومستقبل كريم للمواطن والوطن، وما فوز (موراليس) برئاسة بوليفيا، والنهوض العظيم للبرازيل التي تكاد أن تكون واحدة من الدول المتقدمة على الصعيدين الاقتصادي والصناعي إلا دليل ساطع على ما تقدم.

 وبعد.. هل نستطيع أنْ نقول: إنّ الإمبريالية الأمريكية، وشركاتها الاحتكارية العملاقة والمتعددة الجنسيات، واستخباراتها المنتشرة في كل مكان هم أعداء للسلام والأمن والاستقرار والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.. وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها..؟

العدد 1105 - 01/5/2024