جنكيز إيتماتوف بين الهمّين الجمالي والفلسفي

ينتمي جنكيز إيتماتوف إلى جيل الكتاب السوفييت الذين ظهرت كتاباتهم بعد الحرب الوطنية العظمى، وقد كان مصيره الإبداعي وهو المولود عام 1928 في قرية شكر القرغيزية سعيداً، بغض النظر عن أن والده البولشيفيكي القرغيزي، سقط ضحية الاضطهاد عام 1937 واحتضنته عمته كاراغيز آبا (1)، فقد بدأ الابن بنشر قصصه القصيرة الأولى منذ عهد ستالين. وهو يدرس في المعهد الزراعي، ثم عمل مهندساً زراعياً في معهد الدراسات العلمية للثروة الحيوانية، لكن موهبته الأدبية بدت جليّة منذ سنوات الدراسة المبكر وكان واضحاً أن الكتابة ستكون مهنته الرئيسة.

 التحق إيتماتوف بدورة عليا في الأدب في مدينة موسكو عام1956 أنهاها بعد عامين. حينها رأت روايته (جميلة) النور(1958)، وجلبت له شهرة عالمية، فأعيدت طباعتها في ألمانيا وحدها عشر مرات، وترجمت إلى حوالي مئة لغة من لغات العالم، منها ترجمة الأديب الفرنسي لويس أراغون الذي وصفها بأجمل رواية حب معاصرة، وعنها يقول إيتماتوف في حوارٍ نُشرَ عام 1976: (… كانت لديّ رغبة لا شعوريّة، إن لم تكن متعَّمدة، للتحدث عن الإنسان المراهق وكيفيّة مواجهته للحرب. إنّه جزءٌ من المجتمع، ولذا يقعُ عليهِ هو أيضاً عبءٌ معيّن. هذا أولاً، ثانياً – كانت نصب عيني مهمّة أوسَع هي أن أبيّن أن مفعول الحرب مهما كانَ تدميريّاً لا يستطيع أن يدمّر الإنسان. الحربُ تغيّر عادات الناس ونمط حياتهم والعلاقات بينهم، وتعود عليهم بالحرمان المادي. والحرب تجعل قلوب الناس جاسئة قاسية. ويمكن أن تجعلهم يصارعونَ من أجل أنفسهم فقط. وإذا ظهرَ مثل هكذا الموقف فإن قوى القسوة ترتدي أسوأ لباس،ولكن الروح الإنسانيّة تزدهر آنذاك بالذات، كأنما خلافاً لطبيعة الحرب وكأنها تتحدّى قوتها التدميريّة. فهي تندفع بأفضل قواها الدفاعية لتصد الشرور) (2).

والحقيقة أن الرواية بصورة ما محاولة عميقة في الكشف عن احتياطي القوى الإنسانيّة التي تكافح الشر والموات، في أصعب اللحظات التي تمرّ على الإنسان.

 وأدرجت روايته (عين الجمل-1956)، في المناهج التدريسيّة للطلاب الألمان.

 لم تستطع قوانين الواقعية الاشتراكية أن تقوقع كتابات إيتماتوف، وأنقذه من براثن النقد الأيديولوجي عمق إحساسه القومي وإبداعه الإنساني المضيء.

كان مؤلف (قصص الجبال والسهوب) (3) المشهورة سعيداً بحب القراء له، منذ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وفي الوقت نفسه نال في هذه الفترة اعترافاً رسمياً، فقد أصبح أصغر الحائزين على وسام لينين(1963)، وحصل ثلاث مرات على أوسمة الاتحاد السوفيتي، وجائزة الدولة. كما نال لقب بطل العمل الاشتراكي، وكان عضواً للجنة المركزية للحزب، وعضو المجلس الأعلى للاتحاد السوفيتي… ومع ذلك، تمكن الكاتب من إبداع تلك الروايات الرائعة، مثل (السفينة البيضاء-1970)، (و يطول اليوم أكثر من قرن-1981) و(الكلب الأبلق يعدو على حافة البحر-1977)، وأقول (مع ذلك) ليس تقليلاً من شأن هذه المهمة السياسيّة أو تلك بحد ذاتها،لكننا نرى من حولنا بعض الأدباء الذين أرادوا أن يجمعوا صفة (السياسي) إلى صفة (الأديب) فأصابهم ما أصاب ذلك الغراب الذي أراد أن يتعلم مشية البطة!

إن التعبير عن الأفكار الفلسفية ضمن البنية الجمالية للأدب، هو واحدٌ من التقاليد القديمة لتطور الإنسان الروحي. حيث تظهر تجربة تطور الأدب كلّها، بأن المسائل المتعلقة بالإبداع الأدبي، لا يمكن فهمها واستيعاب مغزاها، وحلّها للنهاية، ضمن نطاق الأدب فحسب، ولم تكن هواجسُ البحث الفلسفي غريبة على الأدب أبداً، لذلك فقد دخلت الفلسفة بشكل لافت في الأعمال الأدبية (الروايات، والمسرحيات، والشعر، والملاحم…)، مساعدة في البحث والتأمل وفهم العالم الإنساني، وعالم الوجود بصورة عامة.

 من الضروري طبعاً للباحث في مجال الأدب، أن يستخلص بمهارة الجوانب الفلسفية والمنهجية من النسيج الأدبي، ذلك أن الأفكار الفلسفية في الأعمال الأدبية لا تطفو على السطح، ولا تطرح مباشرة وبشكل واضح، بل تقع في الطبقات العميقة، وفي الأساس. صحيح أن الأدب يعكس الحياة الواقعية، لكنه يعكسها على طريقته الخاصّة، وبإبداع، توافقاً مع القوانين الأدبية: حيث تنشأ باستخدام الخيالِ بنىً معينة، مُركزة اهتمام القارئ على أشياء بعينها.

يقول إيتماتوف في معرض إجابته على سؤال الصحفي نيكولاي خوخلوف حول مسألةِ الإخلاص للواقع قائلاً: (الإنسان يبحث عن الحقيقة بدأب وإصرار مع أنها تبدو مكشوفة دوما وقابلة للفهم.ثم إن الفنان لا يرضى بالحقيقة مهما كانت، بمعنى أن الفن لا يستطيع أن يتخذَّ من كلِ شيءٍ في الحياةِ موضوعاً له. ومع ذلك الاعتراف بأن الحقيقة في الحياة العادية تختلفُ عن الحقيقة في النتاج الفني، فهي في الفن يجب أن تكون سبيكة صلدة خالصة من الشوائب المعيشة، ويجب أن تكون طويلة الأمد ومؤثرة للغاية وقوية إلى أبعد حدود القوة حتى يجري ما يشبهُ تقوية وتركيز الخير والشر. وهنا لا يمكن الاستغناء عن دقة الأحكام الذهنية وصدق المشاعر) (4). ولقد كان إيتماتوف مخلصاً لرؤياه تلك في أعماله الروائية جميعها.

 إبداع الأديب القرغيزي المشهور جنكيز إيتماتوف، مثالٌ ساطع على التعبير الفلسفي من خلال البنية الأدبية الجمالية. فمن غير الممكن دراسة إبداعه بصورة عميقة، وتجاهل الأفكار الفلسفية، المشفّرة في البناء الفني لرواياته وقصصه القصيرة.

 لا يطرح إيتماتوف الفنّان/ الفيلسوف، وجهات نظره الفلسفية بشكلٍ منطقيٍ جافٍ. بل تنسرب العناصر الفلسفية في إبداعاته كلّها، وتتخلل المسائلُ الفكريةُ – الفلسفية أعماله بصورة سلسة.

 إنّ الموضوع الفلسفي الرئيس لايتماتوف هو الإنسان، ونفسيته، وطبيعته، وسلوكه في حالات مختلفة. حيث يرى الكاتب، إن (الشيء الرائع في الإنسان بالتحديد: كم هو إنسان)(5). وما يوحّد أعماله هو محاولة البحث عن الإنسانية في الإنسان.

 تجد في كل عمل من أعماله مسألة رئيسة تشغل باله: فقد نلمس اشتغالاً على نفسية الإنسان المُحتَقر في أعماله: (السفينة البيضاء) – (العم مأمون)، (غيمة جنكيز خان البيضاء) (أبو طالب كوتييبايف). عُقد الإنسان النفسيّة – في(النطع)، و(ويطول اليوم أكثر من قرن). مسألة الجريمة – في (وجهاً لوجه)، و(الصعود إلى فودزيام)، و(السفينة البيضاء). حالة الخوف – في(وجهاً لوجه)، و(غيمة جنكيز خان البيضاء) (إبرديني). لكن بالتأكيد، لا تقتصر الأعمال المذكورة أعلاه على ذلك فقط.

 يولي إيتماتوف طبيعة الإنسان وجوهره أهميةً كبيرة. يأخذ الشخصيات كما هي في الحياة. ينظر ليس فيما حولها فحسب، بل يحاول أن ينفذَ إلى داخلها. لقد فعل ذلك منذ أعماله المبكرة.

كتب ذات يوم بهذا الشأن: (غالباً ما يسألونني من أين استقيت صورة جميلة ودانيار. يصعب الجواب بالتحديد عن هذا السؤال. لقد أخذت عن الناس الأحياء الذين عشت معهم وعملت بينهم في الكولخوز، وهم بالنسبة لي موجودون في الحياة نفسها، وأنا ألتقي بهم يومياً. وعلى مرأى منا يترعرع أناس جدد مثل جميلة ودانيار..إنهم أناس رائعون بودي أن أكرس لهم أفضل الصفحات، وأكثرها إشراقاً) (6). ولقد أظهر إيتماتوف في روايته (جميلة) التي تحدث عن شخصياتها ومن خلال نموذج الفتى (سيّد) فراسة وفطنة البطل. دخل الكاتب عميقاً في نفسية الإنسان، واصفاً المعاناة الداخلية للأبطال، وحالة الفقدان المؤلمة التي عاشها الفتى سيّد مع مغادرة جميلة ودانيار القرية. لقد حقق نجاحات كبيرة في وصف الحالة الداخلية للإنسان، ومعاناته، ومبررات سلوكه. وسنراه يحاولُ دوماً الوصول إلى الزوايا كلّها في العالم الداخلي لهذا الكائن العاقل، ويتجلّى ذلك بوضوح، عندما تكون الشخصيّة في حالة مفصليّة أو حدّيّة، فيحصل في نفسية البطل تناقض بين الخير والشر، بين ما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي، بين المصلحة الشخصية ونكران الذات.

 تحتل مسألة الأخلاق في أعمال إيتماتوف أحد الأماكن المركزية. يعيش الخير والشر داخل الفئة الاجتماعية الواحدة، وداخل الإنسان الواحد كما نلاحظ في رواية (عين الجمل) التي صدرت منذ أيام عن (دار طوى): (من الصعب أن تُبرز الصراع بين الخير والشر. (7) داخل هذه الحياة… ولنقل إن الإنسان يمكن أن يكون طبيعياً تماماً، ومع ذلك تعششُ في أعماق روحه القسوة. كيف سيتصرف هذا الإنسان أوقات الأزمات؟ ما الذي سينتصر في داخله – الخير أم الشر؟ أي إنسان هو – شرير، أم خيّر؟ إنّه خيّر إلى لحظة معيّنة؟ بالنسبة لي فإنّ القسوة المحتملة، الخفية، تثير اهتمامي أكثر من الشجار والقتل…أحاول أن أظهر في الإنسان احتياطي تلك القوى الإنسانية، التي تصارع الشر).

و هو وخلال ذلك كلّه كانت كتاباته دعوة عميقة للناس في العالم أن يطّلعوا على روح الشعب القرغيزي وعاداته وتقاليده وقواه الوثّابة البناءة التي انطلقت – في حقبة عاشها الكاتب- تمارس التحويل العظيم للأرض وتنتقلُ من مرحلة الرعي والترحال إلى التحضّر والتمدّن، كان يدعو الناس على حد تعبيره (ليسمعوا أغاني تلك الأصقاع الجبليّة والسهوب،أغاني الحرية والحب والفرحة والانتصارات في بناء الحياة الجديدة) (8).

 

الهوامش

1 يكتب إيتماتوف عن عمته هذه في (صفحات من حياتي): (في تلك المرحلة القاسية آوتنا عمتي كاراغيز آبا. ومن طيب طالعي أن عمة كهذه كانت عندي. فقد حلت محل جدتي.وهي مثلها خياطة ممتازة وراوية تحفظ الأغاني القديمة، لقد استطاعت أن تثبت لنا أن لا شيء يهلك الإنسان – مهما كانت المصائب التي تنهال عليه- إذا ما كان في أهله وقومه).

2- جنكيز آيتماتوف،الرياح تطهّر الأرض، ترجمة:خيري الضامن، دار التقدّم، موسكو، ،1988 ص 75.

3- أعمال هذه المجموعة شملت ز حورتي في منديلٍ أحمر، و المعلم الأول-،1962 و وداعا يا غوليساري-،1966 وقصص أخرى.

4- ج. إيتماتوف، الرياح تطهر الأرض، ترجمة:خيري الضامن، دار التقدم، موسكو 1988 ص192-193 .

5- ج. إيتماتوف (عمل مشترك)- مع الأرض والماء، فرونزه، 1978- ص. 319(باللغة الروسية)

6- ج. إيتماتوف، الرياح تطهر الأرض، ترجمة:خيري الضامن، دار التقدم، موسكو ،1988 ص68.

7- ج. إيتماتوف (مشترك)- مع الأرض والماء… فرونزه، 1978- ص. 319. (باللغة الروسية)

8- ج. إيتماتوف، الرياح تطهر الأرض، ترجمة:خيري الضامن، دار التقدم، موسكو ،1988 ص67.

العدد 1105 - 01/5/2024