حبيب كحالة رائد الصحافة السورية الساخرة

ولد حبيب كحالة في دمشق عام 1898 وتلقى علومه فيها، ثم تابع تحصيله في الجامعة الأمريكية في بيروت، فحصل على دبلوم في التجارة عام 1918 ولما عاد إلى دمشق بعد رحيل الأتراك، دخل ميدان الصحافة، فأسس جريدة (سورية الجديدة) عام 1918 وكانت ثالث جريدة تعرفها سورية في ظل الحكم العربي، وقد استمرت في الصدور حتى عام 1928 حين أوقفها، وأصدر بدلاً عنها مجلة (المضحك المبكي) عام ،1929 ثم أتبعها عام 1932 بمجلة (ماشي الحال)، ثم مجلة (المصور) عام 1936 فجريدة (دمشق) اليومية عام 1947. وكان يسهم في تحرير جميع هذه الصحف والمجلات التي أصدرها، فيكتب قسماً كثيراً من مواد (المضحك المبكي)، وافتتاحية في كل من سورية الجديدة، وماشي الحال، ودمشق. ولما انتخب نائباً عن دمشق في البرلمان السوري عام 1947 صار أمين سر الهيئة النيابية للحزب الوطني، ولم يكتفِ بالعمل الصحفي وحده، بل مارس الكتابة الأدبية، فأصدر أربعة كتب هي: (الناس)، (ذكريات نائب)، (كشكول المضحك المبكي)، (قصة خاطئة).

حين توفي في الثاني والعشرين من كانون الأول عام 1965 استمر ابنه سمير كحالة بإصدار (المضحك المبكي)، وحمل بعده أعباءها الجسيمة، ومن ذلك رئاسة التحرير، وكتابة بعض المواد، ووضع الرسوم الكاريكاتورية التي برع فيها أيما براعة، إلى أن توقف نهائياً في 29 أيار 1966.

كان يشرف على الصفحة الأدبية فيها الشاعر أبو سلمى (عبد الكريم الكرمي)، وبعد استقالته حلت محله الأديبة (كوليت الخوري) التي نشرت فيها العديد من المقالات والمقابلات والأخبار الأدبية.

كانت مجلة (المضحك المبكي) أسبوعية، سياسية، فكاهية، كاريكاتورية، وقد جاء في افتتاحية العدد الأول منها:

(أما خطتنا فإننا نعاهد القراء على أن تكون صريحة صادقة، ولو أغضبت البعض)، وقد بنيت سياستها على النقد الخفي اللاذع، والسخرية المرة، والدعابة الطريفة، والأسلوب الفني المبتكر، والرسوم الكاريكاتورية التي تلخص الأحداث، وتبرز المواقف، وتجسم الأخطاء، لذلك أخملت جميع رصيفاتها، وبقيت وحدها في الساحة الصحفية، وما كان لهذه المجلة أن تنفرد في السبق، لولا قلم صاحبها المبدع، وريشته الساخرة الضاحكة التي تنم عن موهبته الأصيلة، وذكائه الوقاد.

إن مجلة هذه سياستها كان من الطبيعي أن تتعرض للتعطيل، وتواجه سلسلة من المتاعب، وقد صدر أول قرار تعطيل لها في 26 تموز 1930 حين نشرت رسماً كاريكاتورياً لبعض الوزراء وهم ينشدون (المارسيلز) ـ النشيد الوطني الفرنسي – أمام المندوب السامي بمناسبة 14 تموز، وقد لبس كل وزير (طرطوراً) مضحكاً، ثم عادت للصدور في تشرين الأول من العام نفسه، وكانت صورة الغلاف تمثل المضحك المبكي، وهي خارجة من قبر التعطيل، وقد هرب الوزراء من حول القبر!

كان من أبواب المجلة: التعليق على الأخبار، الشعر الضاحك، لكل سؤال يا بثين جواب، فكاهات، دعاء حكمة حمار، مضحكات مبكيات، إعراب، حديث سياسي حشاش، قصة العدد، موال الأسبوع، زلغوطة، الزجل والقرادي، قالوا وقلنا، فتشوا عن مغزاها، محكمة المضحك المبكي، عيادة المضحك المبكي، حزازير، النكتة والكاريكاتور، البورصة السياسية.

وكانت واسعة الانتشار، لا يقل توزيعها عن ألفي نسخة في سنتها الأولى، ثم ازداد إلى بضعة آلاف في عهد الاستقلال، وبلغ ذروته عام 1964 إذ صار يطبع منها أسبوعياً نحو عشرين ألف نسخة، ولقيت إقبالاً منقطع النظير لا في سورية فحسب، بل في الأقطار العربية أيضاً.

وكانت مجلة موضوعية متحررة من العقد لا تحابي أحداً، ولا تخشى في قول الحق لومة لائم، اتخذت من الضحك سلاحاً لها في أكثر المعارك جدية، ونفذت بجديتها إلى أكثر الأهداف تحصناً وترفعاً، فعلى غلافها كنت ترى الوزراء وقد اتخذت أجسادهم هيئة الحروف. بين منطوٍ على نفسه ممثلاً حرف الحاء، أو ملتوٍ بأطرافه ليبدو كحرف الياء، أو ذي عمامة طائرة عن رأسه، وكان بين الوزراء شيوخ معممون آنذاك، لتصور عمامته النقطة فوق حرف الضاد، وكان رئيس الوزراء يُرسم على غلاف المجلة لابساً (طرطوراً)، حاملاً طبلاً يدق عليه مع أفراد وزارته لحن (المارسيليز)، دليلاً على تبعيته الذليلة للمستعمر الفرنسي.

وكانت تفتش دائماً عن معايب السلطة لتبرزها وتنتقدها كائنة من كانت، ولذلك يمكن القول إنها كانت طوال حياتها مرآة للحكم، ومقياساً لرحابة صدور الحكام، وميزاناً لصبرهم وطول أناتهم.

وكان من أطرف زواياها زاوية (فتشوا عن مغزاها)، ذات المغزى العميق والمدلول الرمزي، فقد ورد في العدد الحادي عشر من السنة الأولى، تحت عنوان: (لو يسمح جوخ) أن الكاتب والأديب الروائي معروف الأرناؤوط صاحب جريدة (فتى العرب) دعا إليه ـ وهو في أحد المقاهي، (بويجياً) وطلب منه أن يمسح له حذاءه، ولما انتهى (البويجي) من عمله، لم يرتح معروف للمعان حذائه، فسأله، كم مضى عليه في هذه المهنة، فأجاب: ثمانية عشر عاماً، فقال له معروف أفندي: (يخرب بيتك، صارلك 18 سنة ولسّاك بويجي وما ترقيت؟! فعلق عليه حبيب كحالة ـ وكان يجلس معه ـ قائلاً: (إنه لا يرتقي يا سي معروف، ما دام عمر يمسح بويا، ولو كان يمسح جوخ، لكان اليوم في أعلى المراتب).

كانت مجلة (المضحك المبكي) تعمد إلى سوق حكمها على لسان حمار في زاوية (حكمة حمار)، ومنها مقولة: (صحيح أنا حمار، ولكن حمّلني ذهب، بفرجيك كيف بحكي وفين بجلس). وكانت تتناول في زواياها ورسومها الكاريكاتورية المفوض السامي الفرنسي، ورؤساء الدولة، ورؤساء الحكومات والوزارات وأرباب الشأن، وقد بلغ التعبير بالكاريكاتور ذروة الإبداع، ولا سيما في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وكانت هذه الرسوم الهزلية تتسم بالعمق والأصالة الفنية المبدعة، وتفعل فعل السحر في القراء.

إن مجلة (المضحك المبكي) ستبقى على مدى التاريخ من أشهر المجلات العربية الساخرة التي ظهرت في الوطن العربي، وتركت صدى واسعاً في الأوساط السياسية والأدبية والصحفية والفنية، وسوف تظل مرجعاً تاريخياً مهماً للحقبة التاريخية التي عاشت فيها بين عامي 1929 و1966.

لقد كتب الكثير من المقالات عن حبيب كحالة بعد وفاته، وكان أبرز من كتبوا عنه من الأدباء والشعراء والصحفيين: بدوي الجبل، شفيق جبري، د. صبحي أبو غنيمة، فؤاد الشايب، جلال فاروق الشريف، كوليت الخوري، عباس الحامض، زهير مارديني، نجاة قصاب حسن، نصوح بابيل وغيرهم..

ومما قالته (ابنة أخته) الأديبة كوليت الخوري: (كان هذا الكاتب الساخر، يفرج الهم عن النفوس باللاذع من نكاته، والساخر من آرائه… كان يسكب أمرّ الأحداث السياسية في القوالب الهزلية، ويلون لنا أشد الأمور حلكة بالإشراق).

وقال د. صبحي أبو غنيمة: (كان على حبيب كحالة في جميع مراحل حياته، أن يضحك جماهير أمته ويبكيهم، وأن يتحمل في هذا السبيل من الشدائد والأهوال ما يضحك ويبكي فعلاً، لم يُلقِ السلاح، بل ظل صخرة في الميدان، لكنه دفع ثمن هذا من دمه وقلبه وكبده).

العدد 1105 - 01/5/2024